مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس – الحلقة العاشرة -

لمحة موجزة عن نضال الحزب
منذ المؤتمر التأسيسي 1947- وحتى الوحدة 1958
(1)

نضال الحزب في الساحة السورية:

إن بدية التبشير في القطر السوري، منذ 1940 وصولاً إلى إعلان تأسيس الحزب رسمياً في 7 نيسان 1947، جعل نضال الحزب-في تلك المرحلة- ينطلق أساساً من هذا القطر ضد الاستعمار الفرنسي والصهيونية، والحكومات الإقطاعية والبرجوازية، وضد الأحزاب المعادية للعروبة والتقدم، ومن أجل المطالب الوطنية والقومية، والقضايا المطلبية والمعاشية للجماهير. وكانت العفوية هي الطابع العام لذلك الحماس الثوري الرومانسي لدى شباب الحزب الذين لم يكونوا مندمجين في إطار حزبي حقيقي، كما هو معروف في الأحزاب الثورية المنضبطة بقوة، (التفاف حول الأستاذ الأرثوزي والدكتور وهيب الغانم) ثم حول الأستاذ عفلق والبيطار.. وهكذا).

…”ورغم أن ذلك النضال كان يتم في بعض الساحات القطرية (التي امتد إليها الحزب بعد مرحلة التأسيس)، إلا أنه كان يتميز (ومنذ البداية) بطابعه القومي الوحدوي الشمولي، كما كان يتميز بطابعه الجماهيري (…)”.

…”ولعل من أبرز الصفحات المشرقة في تاريخ الحزب طيلة مراحل النضال (السلبي) (الذي يقصد به معارضة النظام القائم)، تلك المعارك الضاربة التي خاضها من أجل الديمقراطية في كافة ساحات تواجده، وخاصة في القطر السوري، هذا التراث الديمقراطي الهائل الذي لم يستطع المحافظة عليه، والاستفادة منه وتطويره إبان وجوده في السلطة.

…”واستطاع الحزب من خلال المظاهرات الشعبية، التي كان يقودها، والتعبئة الإعلامية المتواصلة، عبر جريدة (البعث) التي كان يصدرها في القطر السوري، أن يكون طليعة النضال الذي حقق الكثير من الإنجازات الوطنية الديمقراطية، نذكر منها:

– إسقاط المرسوم رقم (50) الديكتاتوري الشهير، الذي قدمته حكومة صبري العلي لشل وتقييد وإلغاء الحياة الديمقراطية في القطر.

– سن قانون الانتخابات النيابية على درجة واحدة، وبصورة سرية ومباشرة، بعد أن كانت على درجتين.

– معركة تعديل الدستور، لتجديد رئاسة شكري القوتلي، وطبقته البرجوازية الحاكمة، واعتبار محاولة تعديل الدستور خطرا على الجمهورية والحرية والاستقلال وفاتحة الديكتاتورية والاستبداد.

– تأميم الشركات الأجنبية: كشركة الريجي (حصر التبغ والتنباك)، والكهرباء- والحافلات الكهربائية (وكانت كلها فرنسية)، وكذلك تأميم شركة مرفأ اللاذقية (الوحيدة في القطر، إذ ذاك)، التي كانت تدار- كملكية خاصة- لبعض العائلات (الاحتكارية المتنفذة).

– تأميم بنك سوريا ولبنان، وتحرير النقد السوري من الارتباط بفرنسا.

– قانون العمل وتعديلاته المحسنة المتلاحقة، من حيث دور النقابات وحريتها واستقلاليتها، وحق الإضراب، وتحديد ساعات العمل بثمان ساعات يومياً… الخ.

– النضال الشعبي والبرلماني في سبيل تحديد الملكية الزراعية والصناعة، و”قانون حماية الفلاح والعامل” و”قانون تحديد أملاك الدولة” وتوزيعها على صغار الفلاحين، وإقامة التعاونيات الفلاحة، وتقديم مشاريع قوانين واضحة ومحددة لهذه الغاية، عن طريق نواب الحزب في البرلمان السوري، مع دعم جماهيري واسع. الأمر الذي حقق وراكم العديد من المكتسبات والتحولات التقدمية في هذه المجالات، وشكل المقدمات الهامة لإقرار قوانين الإصلاح الزراعي والتأميمات الصناعية اللاحقة.

– النضال من أجل دعم بقية الأقطار العربية ضد الاستعمار، واعتبار وحدة النضال القومي الأساسي في كفاح الحزب.

– توضيح الخطر الصهيوني في فلسطين، وطرح التصور الصحيح لمواجهته بنجاح، بربطه بنضال الشعب المسلح، والمناخ الديمقراطي الكامل، واعتبار الشعب الفلسطيني طليعة النضال المدعم بكل الجماهير العربية، والبدء بتجسيد هذا التطور، حيث قرر “مجلسه الحزبي” بتاريخ 15 كانون الثاني 1948 تجنيد جميع أعضائه للاشتراك في المجهود الحربي، في داخل البلاد العربية، أو في خطوط فلسطين الأمامية، كما قرر إرسال أول كتيبة إلى الجبهة بقيادة “لجنته التنفيذية”(2) وربط جدلياً بين معركة تحرير فلسطين ومعركة التحرر والوحدة القومية.

وربط أيضا بين النضال ضد الصهيونية، وبين النضال ضد الامبريالية، التي أوجدت (إسرائيل) ودعمتها، واستحالة الفصل بين الطرفين (كما تحاول أنظمة التسوية- التصفوية العربية، حتى الآن، بنهجها البائس المضلل، الذي فضحته حقائق الواقع الكارثية المعروفة، وأكّدت صحة تلك النظرة المبكرة التي طرحها الحزب). وبالتالي ضرورة ضرب مصالح الإمبريالية في الوطن العربي، واستخدام سلاح البترول بصورة خاصة في معركة تحرير فلسطين.

وربط كذلك، بين عملية التحرير وبين قيام حكم شعبي ديمقراطي، كشرط لابد منه لنجاح هذه العملية، واعتبر تآمر النظام الإقطاعي البرجوازي في سورية على الحريات الديمقراطية بمثابة تآمره على القضية الفلسطينية، واعتبار محاولة تعديل (الدستور) وتجديد رئاسة (القوتلي) والاتجاه نحو الديكتاتورية – كما ذكرنا- (بخطورة مأساة فلسطين)، أي ربط بين الديمقراطية وبين تحرر فلسطين (الأمر الذي لم يتمثله بشكله الصحيح والمطلوب إبان وجوده في السلطة)، على أن هذا التصور النوعي المبكر والسبّاق لقضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني، لا يزال صحيحاً حتى الآن. كما أثبتت التجارب الباهظة التكاليف، كما سنرى مفصلاً في فصل (الحزب وقضية فلسطين).

أكد على دور الجماهير المصدر لكل السلطات والقيم، وكوسيلة وغاية للثورة، وحقها المقدس الذي لا ينازع في الإمساك بمصيرها، وصنع حياتها الجديدة، وشجب فكرة التركيز على دور الفرد على حساب إلغاء دور الجماهير، ومن أجل تبرير الديكتاتورية (….)(3).

– النضال من أجل القضايا المطلبية المعاشية اليومية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماهير، الذي كان وراء جميع المكاسب الوطنية –الديمقراطية- التقدمية التي تمت في تلك الفترة…

– قاد النضال في القطر السوري ضد اتفاقية مد أنبوب جديد مع (شركة نفط العراق الإنجليزية (I .P.C ( واتفاقية (التابلاين الأمريكية) لمد أنبوب بترولي من (السعودية)…

– النضال ضد الأحلاف الإمبريالية “حلف بغداد ” و”مشروع إيزنهاور” و”النقطة الرابعة” الأمريكية، الذي حال دون تحقيق أي منها في سورية، رغم وجود الحكم الرجعي.

– فضح الحكم الرجعي، وخيانة الرجعية العربية لفلسطين، والمساهمة في تحقيقه الظروف وإنضاجها، وفي قيام التغيرات التقدمية اللاحقة، خلال صعود البرجوازية الصغيرة وقيادتها للجماهير ضد الطبقات الإقطاعية البرجوازية المتواطئة… “.

*…” ولقد ناضلت جميع منظمات الحزب القومي الأخرى، من أجل المطالب الوطنية الديمقراطية، وضد الرجعية – الإقطاعية – البرجوازية الحاكمة المتحالفة مع الاستعمار، وضد الأحلاف والمشاريع والمعاهدات الاستعمارية في المساحات العربية الأخرى، وبصورة خاصة في العراق والأردن ولبنان، حيث شكلت (فروع الحزب) في تلك المرحلة المبكرة (1948-1950)، وتبنى قضايا النضال العربي الأخرى في مصر والسودان وليبيا، وتونس والجزائر، والمغرب، وساهم بذلك في تجسيد جدل النضال القطري-القومي، وربط النضال الجماهيري العربي والقضايا المصيرية الواحدة للأمة العربية، ضد عقلية الإقليمية والاستقلالات الجزئية، ومحاولات الإمبريالية الاستفراد بأجزاء الوطن العربي، وعزل نضال الجماهير العربية، وابتلاع المنطقة قطعة وراء أخرى…”.

* ففي العراق “ومنذ البدايات الأولى لبذور البعث ( 1948- 1952)، حيث تكوّن التنظيم، شارك في انتفاضة تشرين الوطنية عام 1952 المجيدة(4) .. التي كان الحزب الشيوعي هو المخطط والقائد الأساسي لها (بحكم خبرته الواسعة في تنظيم وتهييج الجماهير إذ ذاك).

وقد استفاد الحزب كثيراً، من دروس تلك الانتفاضة، وكل الذين اشتركوا فيها بحماس، والذين (أشرفوا على ذلك)، كانوا بعد قليل كوادر الحزب وقادته، وقد ظلت المظاهرة والإضراب والتصدي للسلطة في السنوات الطويلة التالية من القضايا التي يديرها البعث بمهارة، فأصبحت مهنته واختصاصه…”، وهكذا فالمعارك النضالية هي التي تخرج القادة الحقيقيين.

“وبدأ الحزب ولأول مرة، يطرح شعاراته المتلازمة: القومية – الاجتماعية- ويتميز عن الأحزاب القومية التقليدية والإقليمية المحلية، وتزداد مساهمته في المعارك الوطنية الديمقراطية، ضد الاستعمار، وكافة أشكال الاحتلال، والأحلاف والتبعية، والسلطة الإقطاعية الملكية الرجعية المرتبطة به، ومن أجل مطالب وحقوق المواطنين، حيث كان دوره طليعياً في تنظيم وقيادة الجماهير ضد طبخة الأحلاف، وضد زيارة “عدنان مندريس” (رئيس وزراء تركيا) إلى بغداد لإدخالها في الحلف التركي- الباكستاني الذي عرف بعد ذلك: بـ “حلف بغداد”. وذلك بعد الشلل الذي أصاب الحزب الشيوعي إذ ذاك، بسبب مشاكله الذاتية وخلافاته الداخلية الخطيرة، وانشقاقاته العديدة (بعد اعتقال منظمه البارع بهاء الدين الشيخ نوري)، وسياسة الأحزاب البرجوازية (الاستقلال والوطني الديمقراطي)، التي كانت قد قامت بدور وطني بارز ضد الاستعمار (ومن أجل الاستقلال الوطني)، ولكنها تراجعت بعد ذلك، ولم تستطع مواجهة إرهاب السلطة” مكتفية بتقديم (المذكرات) إلى السلطة في السنوات الخمس الأولى من الخمسينات، التي شهدت انحساراً مروعاً وجزراً لا يتصور للحركة الوطنية الثورية.

»-حيث وجد حزب البعث العربي الاشتراكي- الحزب السري الجديد – نفسه وحيداً في الساحة، وقائداً منفرداً لتحركات الشعب وانتفاضاته في السنوات التالية…” وما أن انتهت سنوات المرارة والجزر حتى كان على ساحة النضال الجماهيري حزب ثوري من الطراز الأول…” إذ تمرس من خلال المعارك والسجون” التي لم تعد مصدر رعب بالنسبة للمحترفين الثوريين، وتوضحت الهوية القومية- الطبقية لخطه السياسي…-«.

…” وخلال الفترة الأخيرة من الخمسينيات، وبدء مرحلة المدّ الوطني العارم، حيث كانت الجماهير الشعبية قد دخلت بفضل نضال الحزب وتوجيهه إلى الساحة في سوريا والأردن والعراق ولبنان، وأصبحت البرجوازية تابعاً تجر أذيالها وراء القوى الجديدة العارمة، كان الحزب في المقدمة، وهي فترة الظروف الأحسن، إلاّ أنه كان يعي تماماً أن المرحلة ليست مرحلة العمل الانفرادي، وأن المهام المتشعبة أصعب من أن تقدر حركة مهما أوتيت من القوة، على تنفيذها بدون اتحاد وطني متين في جسم الحركة الوطنية ذاتها…(…) وقد نجح الحزب بعد دأب وجهد طويلين، وبالتعاون الديمقراطي مع القوى الوطنية المعنية في إخراج أول اتحاد وطني واسع في العراق، فولدت “جبهة الاتحاد الوطني”، التي تألفت من حزب البعث، والحزب الشيوعي، والاستقلال، والوطني الديمقراطي، والوطنيين المستقلين، فقادت نضال الشعب ونسّقت جهوده حتى ثورة (14تموز 1958) الجمهورية، التي يمكن القول بأنها ما كانت لتقوم لولا هذه النفحة من الروح الجديدة في الحركة الوطنية، ولولا رؤية العسكريين الشعب مجمعاً ومهيئاً لتأييد أية حركة انقلابية يقومون عليها ضد الحكم الملكي الاستعماري…”، دون أن ننسى، تأثير وإشعاع الوحدة السورية- المصرية الهام في كل ذلك، ودعمها الفعال للحركة الوطنية المعارضة في العراق.

وفي الفترة الممتدة بين (1954 إلى 14 تموز 1958) كان الحزب في حالة انتصارات متلاحقة (انتصارات في صفوف الشعب وتحت الإرهاب)، وتأتي سنة 1956، فيقود الحزب انتفاضة الشعب انتصاراً لمصر (إثر العدوان الثلاثي بعد تأميم قناة السويس)، وفي سبيل إزاحة الحكم السعيدي الأسود، وخرج من الانتفاضة وقد ازداد عدداً، وارتفعت مكانته في نظر الشعب.

ومن الجدير بالذكر أن الحزب في العراق كان أكثر تمرساً بالنضال السري، وإدراكاً لأهمية مسألة الاحتراف الثوري، والتماسك التنظيمي، والانضباط الصارم، وتطبيق النظام الداخلي، كون المسألة بالنسبة إليه: مسألة حياة أو موت. وهو ما ميّزه عن معظم المنظمات الحزبية في بقية الساحات العربية، وخاصة في سورية بالذات، حيث ظلت العفوية والترهل التنظيمي، وعدم الاحتراف الثوري والاستهتار بالنظام الداخلي، السمة السائدة – بشكل أو بآخر- وفقا لمراحل نضال الحزب، وكانت من أسباب أزماته ونكباته المعروفة.

“وقد أصدر الحزب في العراق في عام 1953 لأول مرة، جريدته المركزية السرية “العربي الجديد” ثم بدل اسمها، بعد عدة أعداد، بـ” الاشتراكي” ليؤكد على الصفة الاجتماعية للحزب، وعلى دور الطبقات الشعبية في النضال”.

“وقد أصبحت الجريدة المركزية عنصراً أساسياً، وكان لها دور جوهري في إدامة الروح الثورية في الحزب، وفي زيادة ارتباطه بالجماهير، كما كانت أداة باهرة الأثر في نشر مواقفه وسياساته.. الخ”.

وكان يتوضح توجه الحزب الطبقي تدريجياً، وفي إضراب عمال البصرة، الذي قمعته حكومة “فاضل الجمالي” بقسوة، هب الحزب يعلن وقوفه مع العمال المضربين، وأصدر عدة بيانات، وعقد اجتماعات حاشدة في الكليات والجامعات: مركز وقلب الحركة السياسية آنذاك، ورفع لأول مرة الشعار الذي كان له تأثيره في تبيان هوية الحزب خلال مراحل نضاله الأولى، ” العمال والفلاحون والمثقفون الثوريون طبقة نضالية واحدة”…

» وتأتي ثورة 14 تموز 1958، ليجابه بالقضية الكبرى الجديدة التي أوقعت الحزب في التشويش وفقدان البرنامج، وجعلت بعض قادته “فؤاد الركابي ومجموعته” (الذي كان عضوا في القيادة القومية وأمين سر القطر) يتنكرون لكثير من المفاهيم التي أشاعها وحمل راية النضال من أجلها… القضية التي أفقدته حب وثقة الكثيرين من أعضائه أنفسهم، ومن الجماهير الشعبية المحيطة… تلك قضية المساهمة في الحكم«.

” ولقد كانت تلك الفترة (أي المساهمة في الحكم) اختباراً هاماً للحزب، تجلّت فيه الكثير من الثغرات والسلبيات، ولم تدرس وتقيّم للاستفادة منها في المراحل التالية، وخاصة في (ثورة 14 رمضان 1963)، التي انتكست بدورها، وألحقت الأذى بالحزب (الخبير في أوجه النضال وقيادة معارك الشعب، وسهلت للرجعية أن تعود وتتربع على سدة الحكم في العراق مرة أخرى” بعد الردة التشرينية 1963.

وفي القطر الأردني… وجد الحزب نفسه – منذ تأسيسه في مطلع 1948- في مواجهة “حرب فلسطين” التي شارك فيها سياسياً وعسكرياً (بصورة رمزية)، من خلال إنشاء (طلائع البعث الفلسطيني)، وإصدار جريدة (اليقظة) الأسبوعية، ثم (البعث) في القدس. ونجاح اثنين من مؤسسي الحزب في مجلس النواب الأردني في انتخابات 1950/ هما: عبد الله الريماوي (عن دائرة رام الله) وعبد الله النعواس (عن دائرة القدس).

” وبعد اغتيال الملك عبد الله في عام 1951، والاضطرابات الخطيرة التي شهدها الأردن، واشتداد حركة المعارضة، وحل مجلس النواب عام 1954، واصل الحزب نضاله، وبلغ حداً كبيراً من التوسع (العفوي)، والنفوذ. وتركز عمله السياسي، أكثر من السابق، مع التنظيمات السياسية المعارضة الأخرى، حول النقاط الأساسية التالية (المستقاة، أصلا، من برنامج الحزب المعلن (بين1950-1955)، التي أصبحت برنامج المعارضة الوطنية ككل. وهي:

– محاربة المشاريع العسكرية الغربية في المنطقة العربية، ومنع الأردن من الدخول في “حلف بغداد”.

– (تعريب) الجيش الأردني، بمعنى تصفيته من عناصر الضباط الإنجليز.

– إلغاء المعاهدة البريطانية – الأردنية.

– إحلال المساعدة العربية محل المعونة المالية والاقتصادية البريطانيتين.

– وأخيرا إقامة نظام ديمقراطي حقيقي.

وبعد انتخابات عام 1956 في ذروة مرحلة النهوض الوطني والقومي، تألفت حكومة “الاتحاد الوطني” برئاسة السيد سليمان النابلسي، وسُمِّيَ عبد الله الريماوي (أمين سر القطر) وزيرا للخارجية، وقام الحزب بدور طليعي في قيادة الانتفاضة الشعبية العارمة، ضد المعاهدة “البريطانية- الأردنية”، التي تم إلغاؤها في العام ذاته، وفي حركة إبعاد “غلوب باشا” الذي كان رئيسا لأركان الجيش، وتطهير الجيش الأردني من الضباط الانجليز، وحلت مساعدة مالية من (مصر والسعودية وسورية) محل المساعدة المالية البريطانية للأردن”.

“وكذلك في الوقوف إلى جانب مصر إبان “العدوان الثلاثي”، وإجبار الملك حسين على التراجع والانحناء أمام العاصفة، كعادته، في مراحل المد الجماهيري الصاعد (والبارع في ركوب أمواجه)، ليعود فينقض على هذه الجماهير في الظروف الملائمة”، بمنتهى العنف والقسوة والملاحقة – كما حصل في ربيع 1957 وغيرها من المراحل، “بدعم مطلق من التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي، لأداء دوره المرسوم- من جهة- ولقصور وعي وتجربة قيادات الحزب في الأردن (حيث كان الريماوي – يتصرف من خلف ظهر قيادة القطر والقيادة القومية للحزب)، ونقص وعي الحركة الوطنية الأردنية المعارضة، بشكل عام، وسياسات الأنظمة العربية الوطنية الخاطئة من جهة أخرى، بحيث كانت الحركة الشعبية الأردنية تصاب بالإجهاضات المتتالية” فتخرج من فخ، لتقع في فخ آخر. ومن (السيناريوهات) التي كان يطبقها النظام، – وكأنها كما يبدو – لم تتعلم كما يجب من تجارب حول نصف قرن، وبالتالي لم تستطيع إقامة النظام الديمقراطي المنشود حتى الآن..(5)

* وفي لبنان -“ناضل حزبنا منذ تأسيسه عام 1949 ضد النفوذ الفرنسي، والعقلية الطائفية، وحدد الخطر الذي يهدد لبنان في تلك المرحلة، بالفئتين التاليتين:

* الفئة التي خلفها الانتداب الفرنسي ولا يزال يشجعها، والتي تتذرع بمفاسد الحكم القائم لتحارب العروبة، والفئة التي تتذرع بالعروبة لتتيح لنفسها إفساد الحكم واستغلال الشعب.
وحزب البعث العربي يرى أن لبنان لن ينقذ إلا بنمو وتقدم الحركة الشعبية التي ترجع الائتلاف والحرية والعدل الاجتماعي”(6).

“ولقد ناضل الحزب بالفعل ضد المفاهيم الخاطئة التي طرحتها الرجعية الدينية، والشوفينية حول القومية العربية، وطرحها بمفهومها الإنساني التقدمي، وساهم بذلك في تخفيف مخاوف بعض الطوائف المسيحية في لبنان، من جهة، وفضح دعاة الرجعية الإسلامية هناك الذين ساهموا بأطروحاتهم تلك في ترسيخ الطائفية في لبنان، من جهة ثانية.

ولكن حزبنا لم يستطيع أن يجسد تلك الدعوة الجديدة في تنظيم فعال، ومنتشر يغطي كافة المناطق اللبنانية، بل بقي-ولا يزال- ثقله محصوراً في بعض المناطق اللبنانية دون الأخرى” بسبب القوى الإقطاعية- البرجوازية المحلية المسيطرة، والتحسس الطائفي المذكور، والسياسيين المتاجرين بالطائفية، والخلط بين القومية والدين. وذلك رغم أصالة الطوائف المسيحية العربية، ودورها البارز في الحضارة العربية الإسلامية، وفي حفظ التراث العربي الثقافي، والمساهمة الفعالة في إعادة إحيائه. مما يستوجب وجود قيادات ثورية مؤهلة في لبنان خاصة، والمنطقة العربية عامة، تعمل بمنتهى الجدية والحكمة والوعي، في مراعاة وضع لبنان الدقيق، لتجاوز هذه العقدة المتفجرة الخطيرة بصورة ديمقراطية حضارية.

وقد انتقل الحزب من الاقتصار على (مرحلة المثقفين) الأولى، في بداية التأسيس 1949، إلى الفئات الشعبية الواسعة بعد عام 1956 في مرحلة النهوض القومي المعروفة، كما هو الحال في المنظمات الحزبية الأخرى. وقاد الصراع ضد الرئيس “كميل شمعون” الموالي للغرب”، و”مشروع إيزنهاور” كما تكررت ظاهرة (التضخم) الشعبي الكاسح، الذي لم يستطع الحزب هيكلته وتأطيره، وتأهيله تنظيمياً وثقافياً وسياسياً بفعل العفوية، ونقطة الضعف التنظيمية الخطيرة التي رافقت الحزب، ممّا سهل تفككه، وتشتته لاحقاً.

كما لعب الحزب في لبنان دوراً إعلامياً طليعياً في نشر فكر وسياسة الحزب، بحكم مركز لبنان الإعلامي المتميز” وأصدر عدة صحف من “صوت الطليعة” إلى “الأمان” ثم جريدة “الصحافة” عام 1958 الناطقة باسم القيادة القومية للحزب. (بعد قرار حله في سورية ومصر). حيث كان لبنان بمثابة الرئة الإعلامية التي يتنفس من خلالها الحزب. وكذلك “مركز الاتصال واللقاءات والاجتماعات، وحتى اللجوء في فترات الاضطهاد والملاحقة، (في تلك المراحل، قبل هيمنة النظام السوري الحالي على لبنان) وساهم في حل وتجاوز الأزمات، التي تعرض لها الحزب عبر حياته الطويلة، وفي العمل على مواصلة سيرته المستمرة” رغم ارتداد وتساقط العديد من العناصر الانتهازية.

“وتواصل النهوض الشعبي في المنطقة عبر مقاومة الأحلاف العسكرية، والعدوان الثلاثي على مصر، بعد تأميم قناة السويس، 1956، والحشود التركية على حدود سورية، وتنظيم المقاومة الشعبية المسلحة في سورية، إذ ذاك، ونسف العمال لأنابيب شركة نفط العراق خلال العدوان الثلاثي، وقيام “التجمع الوطني”، الذي استمر طيلة تلك المرحلة من النهوض الجماهيري الذي كان لحزبنا فيه الدور القيادي البارز، حتى قيام الوحدة مع مصر عام 1958، كتتويج لذلك النهوض القومي المتعاظم”.

وخلال ذلك، فقد بدأت تتكون للحزب – تباعاً- منظمات حزبية متفاوتة الحجم، قامت على الطلاب (الذين كانوا يدرسون في جامعات دمشق وبيروت وبغداد والقاهرة) أساساً، وانتشرت في معظم الأقطار العربية: كالكويت والبحرين وقطر وعمان والسعودية، واليمن الشمالي والجنوبي والسودان ومصر وليبيا وتونس والمغرب وحتى موريتانيا (لاحقاً). أما في الجزائر فقد طلبت قيادة الحزب إذ ذاك، من الرفاق الحزبيين الاندماج في “جبهة التحرير الوطني” والالتحاق بالثورة التحررية، واستمر الحال (بالنسبة لنا) على هذا الموقف، حتى الآن، تقديرا لوضع الجزائر الخاص، وكون الحزب كان يتعامل أخويا مع (جبهة التحرير الوطني)، التي تضم القوى الحية في الجزائر.

– ولابد أن نشير هنا بكل اعتزاز، إلى الدور البارز الذي لعبه الضباط البعثيون وأصدقاؤهم، في ثورة اليمن الشمالي (أيلول 1962). وتولي الرفيق محسن العيني وزارة الخارجية فيه، وفي الدفاع الباسل المتواصل عن النظام الجمهوري وحمايته وترسيخه بعد ذلك. وكذلك مساهمة الرفاق الحزبين في الكفاح التحرري المسلح ضد الاستعمار الإنجليزي في الجنوب.

– كما لابد من التذكير بدور التنظيم الحزبي في ليبيا، الذي كان يتميز بتركيبه الطبقي الكادح، في الكفاح ضد القواعد العسكرية الأمريكية البريطانية، وضد النظام الرجعي، وفي توعية الجماهير العربية الليبية بكل ذلك، وصولاً (إلى الانقلاب العسكري الحالي)، الذي تولى الرفيق منصور الكيخيا “المفقود حاليا”، وزارة الخارجية، في مرحلتها الأولى، ثم ممثلاً في الأمم المتحدة. بالإضافة إلى وجود رفاق حزبين آخرين، في مراكز هامة، قبل أن تتم (تصفية) التنظيم، تباعاً، بمختلف الأساليب (الجسدية) وغيرها.. تحت الشعار القديم (الذي تخلى عن أصحابه القدامى، وندموا على إطلاقه): ” من تخزّب خان…”!!!

– ويشير السيد (مصطفى دندشلي) في كتابه المذكور “حزب البعث العربي الاشتراكي” ص 189-190 إلى السرعة والنفوذ الواسع الذي تمتعت به حركة البعث بين أوساط الطلاب العرب في العاصمة المصرية. فخلال الفترة الزمنية التي تمتد ما بين عام 1957 وعام 1960، سيطر البعثيون كليا على اتحادات طلاب اليمن والبحرين وليبيا. وكان لهم وجود قوي في اتحادات الطلاب الأردنيين والكويتيين والتونسيين. دون أن يكون التيار الغالب أو المسيطر الوحيد. من أجل ذلك، فإن اتحادات الطلاب العرب المختلفة هذه، خلقت ابتداء من عام 1959، بعض “المتاعب” للسلطات المصرية. وذلك لأنهم في الحقيقة.. يكونون، بنظر المسؤولين مجال عدوى سياسية- إيديولوجية يمكن لها أن تصيب الطلاب المصريين ضمن إطار الجامعة.

وكذلك أيضاً، ومن أجل هذا السبب، فإن المسؤولين في الجمهورية العربية المتحدة، عندما تدهورت العلاقات بين حزب البعث والنظام الناصري قبل نهاية عام 1958، نظروا إلى النفوذ البعثي بين هذه الأوساط الطلابية العربية بعين القلق والريبة، وأصدروا وقراراً بحل اتحادات طلاب اليمن والبحرين وليبيا وإقفال مقراتهم. أما الإتحادات الأخرى فقد خضعت للمراقبة الشديدة.

ولكن بالرغم من هذه الحيطة التي اتخذتها السلطات المصرية، فإن الاتحاد العام للطلاب العرب الذي أنشئ عام 1959 في القاهرة، قد انتخب رئيسا له، غسّان شرارة، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي(7).

وقد كان للحزب أيضا، نويات طلابية، في عدد هام من الجامعات الأوروبية والأمريكية، حيث كان لهم دور هام في الاتصال والعمل الحزبي في أقطارهم، ورفد الحزب بكوادر قيادية متقدمة. مما يشير إلى انتشار البعث ووجوده المتفاوت القوة والتأثير في حياة الأمة العربية، وأحداث المشرق العربي كلها على الخصوص.

* النضال البرلماني:

“رغم أن الحزب لم يكن يملك تصوراً واضحاً حول صيغة الديمقراطية، في ذلك الوقت (سوى المفهوم الغربي المعروف الوارد في دستوره)- كما جاء في تقرير المؤتمر القومي السادس عام 1963 – وحول ما إذا كان باستطاعته الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان أم لا، إلا أنه قرر خوض المعارك الانتخابية (باعتبارها جزءاً من النضال القومي، واستمراراً للخطة النضالية التي اعتنقها الحزب في سبيل حريات الشعب وضمان عيشه ورفاهه) “قرار مجلس الحزب بدخول الانتخابات – بيان 17 حزيران عام 1947- نضال البعث – الجزء الأول ص 178-179” “كما كان قد دخلها بعض مؤسسيه من قبل الاستقلال عام 1943 راجع نضال البعث- الجزء الأول- بيان الأستاذ عفلق مرشح دمشق عام 1943.

وكانت مفاهيم الحزب في تلك المرحلة تنسجم مع المفهوم الغربي الليبرالي للديمقراطية، من حيث البرلمان، وفصل السلطات، والدستور الذي يحدد إطار الدولة، ويحمي الحريات الأساسية للمواطنين.

وبالرغم من المهازل، والتزوير الفاضح، والقمع والإفساد، وكل وسائل التضليل والإرهاب التي كانت تستخدمها السلطات الرجعية إذ ذاك لتزوير إرادة الناخبين، وضمان انتصار أتباعها وأذنابها في تلك الانتخابات، وفي جو من التخلف والأمية شبه الشاملة، وسيادة الأمراض والعلاقات الاجتماعية المتخلفة من عشائرية وإقليمية، وطائفية ومذهبية وعائلية…الخ، فلقد كانت المعارك الانتخابية وسيلة من وسائل تربية الجماهير سياسياً، وقد استخدمها الحزب لتشديد النضال ضد الطبقة الرجعية الإقطاعية البرجوازية الحاكمة، ولطرح شعاراته والتعريف بمبادئه، وبلورة الكثير من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والحياتية للجماهير وتحقيق العديد من تلك المطالب.

وقد كان نواب الحزب في ازدياد متواصل، حتى تجاوزت كتلة الحزب البرلمانية العشرين نائبا، واستطاعت مع أصدقاء الحزب أن توصل الأستاذ أكرم الحوراني – رئيس الكتلة البرلمانية الحزبية إذ ذاك، وعضو قيادة الحزب إلى رئاسة البرلمان بصورة ديمقراطية، وهي الرئاسة الثانية في البلاد(8).

إذن وبعد الاستقلال، ومن خلال الحرية النسبية المنتزعة بزخم النضال الوطني ضد الاستعمار، بدأت الحركة الشعبية بالنهوض، وكان بإمكانها الوصول إلى السلطة ديمقراطياً، وعن طريق البرلمان لو سارت الأمور في سياق تطورها الطبيعي اللاحق، نتيجة افتضاح وعجز التحالف الطبقي الإقطاعي البرجوازي الحاكم عن انجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية، وإعطاء المضمون الاقتصادي والاجتماعي التقدمي للاستقلال، وتصاعد النقمة الشعبية العارمة التي كانت تحاصره، وتهدده بالسقوط، ولكن ذلك التطور (الديمقراطي البرلماني) الطبيعي، ما كان ليحصل في بلادنا المتخلفة المجزأة، ببرجوازيتها العاجزة الذيلية المرتبط بعضها بالاستعمار، ولا بالظروف العربية والدولية المحيطة…” كما كان يتوهم قادة البعث. بينما تؤكد الحياة، وحقائق التاريخ، أن أجهزة الدولة- بما في ذلك القضاء- ليست فوق الطبقات، بل في خدمة الطبقة الحاكمة، وأن الصورة الديمقراطية الليبرالية للحكم في الغرب المتقدم، لا يمكن أن تتحقق في سوريا -بل مسخت إلى مستوى تخلف الطبقة الإقطاعية البرجوازية الحاكمة في القطر.

…” وأن تجربة التشيلي المعروفة- أيام الرئيس الليندي تضيف دليلاً جديداً على عداء البرجوازية حتى لهذا الشكل البرلماني من (ديمقراطيتها) بذاتها، وانقلابها عليها وإغراقها بالدماء” كما فعل الجنرال بينوشي، وغيره من العسكريين الآخرين لاحقاً.

– ولذلك لجأ التحالف الإقطاعي البرجوازي الحاكم لدوس الدستور، وتقليص الحريات الديمقراطية، وتزوير الانتخابات، وتسليط جهاز الدولة الطبقي ضد الحزب والجماهير، بالإضافة لإطلاق (زعرانه) لمهاجمة مكاتب الحزب بالقنابل والخناجر تحت حراسة شرطتها ومخابراتها، والإمعان تارة بحل الأحزاب، وتعطيل جريدة الحزب والصحف المعارضة. وباعتقال القيادات والكوادر المناضلة، والتوجه لممارسة ديكتاتوريته الطبقية الكاملة بالقوة، ومعاملة المظاهرات الطلابية والشعبية بصورة دموية(9).

“ورغم كل هذه الأساليب فقد كانت الحركة الشعبية والقوى السياسية في تعاظم وصل حدود تهديد أسس النظام القائم، ومنعه من الإقدام على اتخاذ بعض القرارات التي تكرس الهيمنة الامبريالية في القطر، فلجأت لأداتها القمعية الأخرى في الجيش…”، حيث كرّست سلسلة الانقلابات العسكرية المدمرة- كما سنرى في الفصل التالي.

* وفي ختام هذا الفصل نود أن نطرح بعض الملاحظات والاستنتاجات فيما يلي:

“إن الحزب لم يستطع استيعاب ذلك المد الشعبي، والمضافرة بين نشاطه البرلماني المتعاظم، (في القطر السوري) وبين العمل التنظيمي الحزبي والنقابي والمهني في صفوف الجماهير، وبالتالي لم يستطع تأطير ذلك المد الشعبي في الصيغة التنظيمية الملائمة التي تدعم صفوف ونفوذ وهيبة الحزب، وترسخ التقاليد الحزبية النضالية المنظمة، وفكرة وأهمية وضرورة التنظيم الثوري في المجتمع، بل غالبا ما كان الأمر على حساب الحزب كمنظمة، والعلاقات الموضوعية داخل وخارج الحزب، حيث استخدمت كثير من الأمراض الاجتماعية التي كانت قائمة في المجتمع والتي كان يحاربها الحزب، إذ ذاك في المعارك الانتخابية، وفي إيصال بعض نواب الحزب إلى البرلمان (…)”!!!.

وحل النواب الحزبيون- كزعماء- محل قيادات الفروع والمناطق، وحلت الولاءات الشخصية محل الولاء للحزب، كما تفاقمت التناقضات في قيادة الحزب العليا، حيث كان (الأستاذ عفلق) يتهم الأستاذين (أكرم والبيطار) والبرلمانيين الحزبيين بالاستهتار بالحزب، وتحولهم إلى بديل له، وعدم مشاورة “الأستاذ ميشيل” والقيادة بأي شيء، وتجاوز كل المؤسسات والقرارات الحزبية، وكانت الاتهامات المتبادلة المؤلمة (التي ذهبت بعيداً جداً)، وبصورة ذاتية مدمرة، وبدون أي دليل على الإطلاق، وقد بلغت حملة التحريض المتبادلة بين القياديين ذروتها في تلك الفترة التي سبقت الوحدة (1955- 1958)، (وكانت من أسباب ترهل وفشل الحزب، ثم سهولة حله قبل الوحدة وكشرط لقبولها) ولعل من المفارقات المؤسفة المتناقضة، أن تغرق قيادة الحزب، وتحاول إغراق الحزب معها، قي تلك الأزمات الداخلية المتفاقمة، في الوقت الذي كان المد الشعبي في الذروة!!!.

“وهكذا نرى مرة أخرى أن غموض فكر الحزب، وعدم تجانس تركيبه، وعدم وجود ضوابط تنظيمية، وحتى عدم الالتزام بها في حال وجودها. كان يجلب الكوارث على الحزب، ويكمن وراء جميع أزماته، ويجعله لا يستطيع جني ثمار تضحيات وبطولات مناضليه، ومراحل المد الجماهيري المتعاظم بالشكل المناسب والمطلوب”.

* يلاحظ تواكب التوسع الحزبي المتزايد، ومرحلة الفيض الشعبي المتصاعد، مع بداية لقاء “البعث” و”عبد الناصر” في معارك مقاومة الأحلاف الامبريالية، و”مؤتمر باندونغ” مؤسس”حركة عدم الانحياز”. وخاصة بعد تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والتوجه نحو الاتحاد السوفياتي، وقيام التحالفات بين القوى الوطنية. مما ساعد على كنس “غلوب” وإلغاء “المعاهدة البريطانية – الأردنية، وتحقيق العديد من الإنجازات الوطنية والقومية الهامة، وصولاً إلى الذروة بقيام الوحدة السورية- المصرية عام 1958، وثورة 14 تموز 1958 الجمهورية في العراق. وكذلك الأهمية النوعية لتفجر ثورة نوفمبر 1954 التحريرية الكبرى في الجزائر قبل ذلك، والكفاح المسلح في المغرب وتونس ضد الاستعمار التونسي، والأثر الإيجابي الخلاق المتبادل بين تلك الثورات التحررية في غرب الوطن العربي، والنهوض الشعبي الكاسح في شرقه. حيث كان يتردد قول (شاعر البعث) الأستاذ سليمان العيسى (اللوائي) إذ ذاك:

من المحيطِ الهادرِ
إلى الخليجِ الثائرِ
لبيكَ .. عبد الناصر

وينقش على رايات الجماهير الشعبية المنتفضة…

وقد انتقل الحزب في تلك الفترة، من (حزب الطليعة المثقفة فقط) إلى حزب جماهيري كبير، حيث كان قائد ذلك المد الشعبي الهائل في المشرق العربي، خاصة وأن التيار الناصري لم يكن قد أخذ أشكالا تنظيمية مستقلة.

ولكن يلاحظ – مع الأسف الشديد – أن ذلك الفيض الشعبي العظيم قد أصيب بالتبدد والانحسار والانحدار والتخبط، بعد الخلافات والصراعات المدمرة المعروفة- بين التيارات التقدمية الثلاث في المنطقة: (البعث، وعبد الناصر، والشيوعيين)، حيث تمكن الملك حسين من ضرب الحركة الوطنية في الأردن، وانحرفت ثورة 14 تموز في العراق، وصولاً إلى كارثة الانفصال الخيانية النوعية الخطيرة في القطر السوري.

* استمرار ظاهرة العفوية والانفلاش، وعدم إيلاء المسألة التنظيمية حقها، باستثناء العراق في مرحلة العمل السري فقط.

ومع تأكد خبرة الحزب الكفاحية الغنية، وبسالته المشرفة في مراحل النضال السلبي، ضد المشاريع الامبريالية والأنظمة الرجعية التابعة، كان يلاحظ تناقض وتشوش الحزب وارتباكه عندما يساهم في السلطة، لعدم امتلاكه خطة عملية مدروسة ومحضرة مسبقا لأوضاع ومشاكل الساحة القطرية المعنية في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… الخ، (رغم تأكيدات المؤتمرات القومية المتكررة على ضرورة ذلك)، أو برنامج مرحلي عملي واضح ومحدد. “حيث تبدو التناقضات في الرؤية والمواقف والمصالح الطبقية، إزاء المهام والتحولات العملية المطروحة على الحكم”، وتبرز اجتهادات العناصر القيادية المشاركة الذاتية المتفردة، كما حصل في سوريا والعراق والأردن في تلك المرحلة، وظاهرة تنامي الخلافات داخل القيادات القطرية، ومع القيادة القومية، وبدايات عدم التزام القادة المشاركين في السلطة، وانحراف بعضهم، وتعاليهم وغرورهم، وتمردهم على الحزب، وتعاملهم من وراء ظهر قياداته مع جهات أخرى غير حزبية، كما تجلى في حالة: عبد الله الريماوي في الأردن، وفؤاد الركابي في العراق، الأمر الذي يجد تفسيره= إضافة إلى كل العوامل التي ذكرناها= في غياب أو (ندرة) الاحتراف الثوري في الحزب، وعدم وجود قيادات قطرية متفرغة، وافتقار الحزب إلى قيادة قومية محترفة ثورياً، مؤهلة وقادرة على ضبط شؤون الحزب القومي، إذ قد يصاب بعض الرفاق (غير المطلعين) بالذهول، إذا عرفوا: أنه لم يكن في القيادة القومية سوى متفرغ واحد، هو “عميد الحزب، الأستاذ ميشيل عفلق” منذ تأسيسه عام 1947 وحتى قرار حله بقيام الوحدة عام 1958!!! ثم كان عضوين متفرغين اثنين فقط، من أصل عشرة، حين قيام (ثورة 14 رمضان / 8 شباط 1963 في العراق، ثم ثورة 8 آذار 1963 في سورية) بقيادة الحزب!!!

[وعندما قامت (ثورة 14 رمضان) لم تكن تلك القيادة القومية تعلم شيئاً عن أعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة، وسمعت بهم أول مرة من الإذاعة !!!] [كما جاء في نضال البعث] – المؤتمر القومي الثامن .. ونضيف أن الحال كان مشابهاً لقيام ( ثورة 8 آذار 1963) في سورية أيضاً !!!

*****

ومع ذلك كله، فقد “غطت مرحلة النهوض، السنوات 1954-1959، التي شهدت أهم إنجازات حركة التحرر العربية بقيام وحدة 1958 بين سوريا ومصر، إلّا أن هذه المرحلة لم تنجُ – كما ذكرنا – من أعراض الأزمة. فقد انتكست الحركة الوطنية في الأردن، وانحرفت ثورة 14 تموز في العراق، وبدأت تجربة الوحدة في الجمهورية العربية المتحدة تتعثر (……)…”

” وباختصار يمكننا القول: أن حزبنا كان قوة محركة أساسية وراء معظم، إن لم نقل جميع الإنجازات النضالية الكبرى التي تمت بين 1947-1958- في ساحات المشرق العربي (السورية والعراقية والأردنية واللبنانية)، سواء في نشر وترسيخ الفكر القومي الاشتراكي الوحدوي، أو في إنجاز العديد من المهام الديمقراطية الأخرى في مختلف المجالات، وفي مواجهة وإسقاط المؤامرات الامبريالية الصهيونية الرجعية وأحلافها المتعددة، وكسر احتكار السلاح، وبداية التعاون مع البلدان الاشتراكية والقوى التقدمية الأخرى المعادية للإمبريالية، وطرح فكرة الحياد الايجابي (وقيام كتلة ثالثة عالمية) تناضل من أجل التقدم والسلام العالمي).. وتحريك النهوض الشعبي الوحدوي حتى تحقيق أول وحدة في تاريخ العرب المعاصر عام 1958 بين سورية ومصر. ولقد كانت تلك المرحلة من تاريخ الحزب مشرقة ومضيئة، ماعدا مرحلة (الانقلابات العسكرية) التي دفع ثمنها الحزب والجماهير، وقاد النضال لإسقاطها، وقدم التضحيات اللازمة لذلك” كما سنرى مفصلاً في الفصل التالي.

هوامش:

1- المصدر الأساسي ” دراسة أولية حول تجربة الحزب”- الجزء الأول: ص (59-81).

2- أذكر أننا سافرنا من اللاذقية، بقيادة الدكتور وهيب الغانم، (عضو اللجنة التنفيذية للحزب إذ ذاك)، وكنا لا نتجاوز الخمسة رفاق في الثانوية العامة (البكالوريا) حيث لم يؤخذ الطلاب البعثيين ما دون ذلك. وكان في جيبي 14 ليرة سورية فقط. وقد أحدث ذلك التطوع، المفاجئ بالنسبة للآخرين، صدىً عميقاً جداً في نفوس الطلاب، والتهبت مشاعرهم الوطنية، فهبّت مدرسة (تجهيز) اللاذقية بكاملها لوداعنا، وأصبحت تنظر للحزب بالإعجاب والتقدير، مما كان له أثره الإيجابي اللاحق في تعزيز سمعة الحزب، وتوسعه بين الطلاب، وفي محاربة الطائفية في المنطقة.

وشكلنا مع عدد آخر من الرفاق (من خارج قطاع الطلاب) مجموعة، ملأت (حافلة ركاب) صغيرة، مصنوعة على هيكل (بيك آب) عسكري قديم من مخلفات الحرب العالمية الثانية، انزلقت بنا في طريقنا عبر لبنان، واصيب بعضنا بجروح طفيفة، منهم رفيقي وصديقي وزميل دراستي وصديق طفولتي وشبابي الحميم الشجاع علي قبلان (الذي استشهد، بعد التحاقه بكلية الطيران في حلب، أثناء أحد الاستعراضات العسكرية).

ولا أنسى دهشتي المذهلة أمام تلك المناظر الساحرة التي رأيتها ونحن نجتاز سلسلة جبال لبنان خلال الليل، حيث كانت تتلألأ أنوار الكهرباء في بلداته وقراه، رغم فصل الشتاء والتي تصورت وقتها – انطلاقاً من اصولي الفلاحية، أنها نجوم مشعة نثرها فلاح (أسطوري) على قمم وأكتاف وسفوح تلك الجبال، كما ينثر الفلاح بذار القمح من كيسه على الأرض، خاصة وأني كنت لا أزال أدرس على ضوء (قنديل الكاز) ذلك النوع من اندهاش الإنسان وغبطته، أمام روائع الكون، الذي يحتفظ به الفنان فقط بصورة مستمرة، ويميزه عن غيره من الناس العاديين الذين تخبو لديهم تلك الأحاسيس تدريجياً، وتخمد تحت وطأة العادات ومشاكل الحياة اليومية.

– وبعد حوالي شهرين من محاولات دخول فلسطين، ابلغنا بعدها أن الرئيس شكري القوتلي لا يسمح لنا بالالتحاق بجبهة القتال، داخل فلسطين، ولا بالتدرب العسكري أصلاً، لخشيته من أن يعود البعثيون، بعد ذلك، للإنقلاب عليه.

وسمح للدكتور وهيب الغانم (كطبيب)، بينما أعدنا إلى اللاذقية، وقد اشترك قسم من الرفاق المقاتلين، والأطباء، الذين تمكنوا من دخول فلسطين، في المعارك التي استشهد فيها عدد من الرفاق الضباط الأوائل، وفي مقدمتهم: المقدم مأمون البيطار، والنقيب فتحي الأتاسي، ومحمد جديد، ومحمد الصقال.. وغيرهم. كما جرح عدد آخر أيضاً (من بينهم الضابط حسن المهدي)، (نضال البعث، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، 1973/ ص 242). ومن الجدير بالذكر أن الرفيق صلاح جديد وثلاثة من إخوته ساهموا بالجهاد داخل فلسطين وجرح أخوه صديق.

وفور عودتنا، بادرنا للإضرابات والمظاهرات التي كان يقودها الحزب ضد (تعديل الدستور)، حيث هاجم (زعران) السلطة مكتب الحزب في دمشق، بالعصي والخناجر، وإلقاء المفرقعات الاستفزازية ثم اقتحمه (حماتهم) من رجال الأمن، واعتقلوا خمسين رفيقاً، وتغاضوا عن المعتدين، كما اغلقت السلطة جريدة “البعث”، واعتقلت الأستاذ ميشيل عفلق (عميد الحزب)، وطوقوا مكاتب الحزب في المحافظات، واعتقلوا العديد من الرفاق.

وإثر اعتقال قيادة (اتحاد الطلاب) في اللاذقية، بادرت لإلقاء خطاب في تجهيز البنين، معلناً الإضراب الذي استجاب له الجميع، وفوجئت، فور نزولي عن (درج) المدرسة إلى الباحة، بالضرب من الخلف، من قبل أحد (زعران) السلطة، الذي كان يهم بطعني بالخنجر، لولا أن انقض عليه الرفيق والصديق والشهم محمد أحمد حسن، الذي أنقذ حياتي، إذ أمسك به وطوقه بقوة من الخلف، واستمر بذلك رغم طعنات الخنجر المتتالية في فخذه، بينما هجم بقية (الزعران) المسلحين على الرفاق الحزبيين القلائل العزل الذين تصدوا لهم ببطولة، وأذكر منهم الرفيق فائز صيداوي وأخويه، الذين جرحوا بخناجر المعتدين. ومع ذلك حمت السلطة (زعرانها) واعتقلت رفاقنا الجرحى، واستمرت في ملاحقة بقية الرفاق، وضاع علينا خلال ذلك أكثر من شهر، بين الإضرابات والملاحقة، والطرد من المدرسة بالإضافة إلى الشهر الذي قضيناه في دمشق، ومع ذلك نجحنا في امتحانات (البكالوريا)، وكنت شخصياً بين مجموعة الأوائل على مستوى القطر، وخرج اسمي في قائمة البعثات الطلابية لدراسة الهندسة البترولية في فرنسا، ولكني رفضت أية بعثة طلابية، وقررت دراسة الطب على نفقة والدي لعلاقته بالشعب، لأن البعثي، يجب أن يكون متفوقاً في كافة المجالات الإيجابية، ليصبح -حسب إيماننا- قدوة للآخرين ومثلاً يحتذى، وتجسيداً لصورة المستقبل العربي المنشود في قلب الواقع الفاسد، وليس كما أصبح الحال، بعد وصول الحزب إلى السلطة، حيث أصبح يطلق على (طلابه) في الجامعة خاصة، (حزب الكسالى والراسبين) والانتهازيين مع الأسف الشديد.

3- مما قاله الأستاذ عفلق في معرض التجديد للقوتلي… ما يلي:

[…«إننا ما لم نبن للبلاد حرزاً حصيناً من نفسها: من مجموع أفرادها ومن ترقية كل فرد وشعوره بهذه الحرية المرفقة بالمسؤولية، فالبلاد تبقى مهددة في كل لحظة ومناسبة بأدهى الأخطار (…)»].

(…) وأضاف حول دور الأشخاص:

…«[بل لو صدقنا كل ما ادعوه ونسبوه لأنفسهم فإننا نقول: إن شخصاً أو عدة أشخاص عاجزون كل العجز عن أن يعادلوا في المنعة والقوة والحصانة قوة شعب بأسره، حتى لو كنا نعيش في عهد الأنبياء لما جاز أن نسلّم بخرافة الشخص، ولما جاز أن نهمل تربية الشعب وتعويده على استعمال حرياته وممارسة حقوقه..

…وإننا إذا لم نقم بعمل جريء وحاسم وعنيد، وإذا لم نضع حداً للعقلية القديمة التي تريد أن تعتبر الشعب قطيعاً من البشر يُسيَّر ويُضلَّل، ويُخدَّر.. إذا لم نضع نهاية فجائية لهذه العقلية كنا معرضين للخطر…

خطر العدوان الأجنبي، لأن الشعب الميت المحروم من فهم الحرية لا يمكن أن يدافع عن ارضه.. وخطر آخر قد يكون أهم من الأول، وهو أن تبقى أمتنا عقيمة ناضبة وجافة عاجزة عن أي إنشاء وإبداع…»]…

=عميد الحزب “الجيل الجديد والمجتمع العربي المقبل” –نضال البعث، الجزء الأول، ص 231-233] = منشورة أيضاً في “دراسة التجربة، الجزء الأول، ص (61-62)..= (1980) وقال الأستاذ عفلق في افتتاحية البعث /16 تشرين الثاني 1947/ بعنوان “مأساة فلسطين وتعديل الدستور السوري” من (نضال البعث- الجزء الأول، ص 208-210):

(…) إننا ندفع العدوان من اية جهة أتى، ولن يكون الدفاع عن دستور سورية وإنقاذها من خطر الدكتاتورية أقل قدراً أو نفعاً وسمواً في نظر المصلحة العربية العليا من الدفاع عن حرية فلسطين، “لاحظوا ربط الديمقراطية بتحرير فلسطين”.

– كان القوتلي يريد تعديل مادة تتيح له تجديد رئاسة ثانية /لأربع سنوات فقط/ بينما أصبحت الرئاسة حالياً أبدية في سورية والوطن العربي عامة (جمهولكية).

• وقد جاء في التعليق على ذلك، في (دراسة التجربة، مباشرة) ما يلي: «إن هذه الروح الديمقراطية لم تُجسد بمفاهيم واعية وراسخة، كما كشفت الممارسة العملية بعد ذلك، حيث أيّدت هذه القيادة الانقلابات العسكرية، وغطت –ولازالت- تغطي حكم الفرد واحتكار السلطة، واغتصاب الحريات الديمقراطية للمواطنين…» (ص 62)

• ونضيف، حالياً /في عام 1979/ إن من يريد الإصلاح على مواقف الحزب الديمقراطية، ونضالاته الرائعة في سبيل ذلك –في تلك المرحلة، بإمكانه مراجعة (نضال البعث، الجزء الأول).

ومن المفجع، فعلاً، أنه مع كل هذا الوعي المبدئي المتميز للديمقراطية وتقديس الحرية، والسيادة الشعبية المطلقة، يتدرج –بعض أولئك القادة التاريخيين إلى الانقلاب على المفاهيم الدستورية والتنظيمية، عندما قاموا “بالقفزة النوعية” عام 1965 ضد شرعية الحزب والدولة. فداسوا الدستور المؤقت، والنظام الداخلي للحزب، وحلّوا، وتجاوزوا كل الهيئات الحكومية والحزبية والنقابية القائمة، لصالح هيئات (رئاسية) وحكومة وقيادة (حزبية) لا شرعية!!! ودفعوا –بالحزب- مضطراً-للوقوف في وجه أولئك المعتدين على “الدستور المؤقت” والنظام الحزبي في حركة 23 شباط 1966/ كما سنرى مفصلاً في هذا الكتاب.

وإني لأزداد فجيعة، ومرارة، وقلقاً عندما ألاحظ –كمناضل حزبي قديم- كيف خرجت افظع انواع الفردية والديكتاتورية من هذا الحزب الديمقراطي العظيم، وصولاً إلى تكريس (عبادة الشخص)، بل الأنكى من ذلك- كيف أيّدها بعض القادة التاريخيين الكبار، الذين كتبوا هذا الكلام وغيره ضد (الفردية). بالإضافة إلى (انقلاب) أعداد كبيرة من (الحزبيين) الجاهزين دوماً لركوب أمواج السلطة، والغرق في مستنقعات مصالحهم المادية الخاصة!!! كما خرج “الأمويون” و”العباسيون” مثلاً من مسيرة الإسلام الإنسانية الخالدة. (مع الفارق النوعي طبعاً، كونهم – رغم احتكارهم للسلطة- وقلبهم الخلافة الشورية إلى ملك وراثي عضوض” ساهموا – بحكم المد الإسلامي إذ ذاك- في بناء الحضارة العربية الإسلامية). بينما ارتد الوطن العربي، حالياً، بغياب الديمقراطية وحكم الشعب، إلى الغرق في مستنقع الديكتاتوريات، والتفتت والاستسلام للعدو الصهيوني الإمبريالي. الأمر الذي يحتاج للمزيد من الدراسة والتحليل العلمي الدقيق، لفهم كيفية إمكانية حصول مثل هذه الظواهر والانحرافات المناقضة لروح وجوهر الإسلام، والحركات الثورية، في كل زمان ومكان. وكيفية الوقاية منها مسبقاً، ودور العوامل الطبقية، وغياب الديمقراطية في كل ذلك.

4- “اعتداء الصيدلة في العراق” –أسميت كذلك لأن اساسها اعتداء (زعران) السلطة على مجموعة من طلبة الصيدلة، بالأيدي والسكاكين بتحريض من (عميدهم المرتبط بالحكم)، وتحولها إلى مظاهرات شعبية دامية ضد الحكم، قتل فيها العشرات من الجانبين، وأدت إلى إسقاط ثلاث حكومات تهدئة، حتى تألفت حكومة عسكرية، ونزول الجيش إلى الشوارع…).

*المصدر: “دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب” الجزء الأول اعتماداً على/نضال البعث: المؤتمر القومي الثامن 1965) وذلك بصياغات مكثفة ملائمة، وبعض التعليقات والإضافات والتوضيحات، دون التقيد الحرفي، وبما لا يخرج عن جوهر ما جاء في المصدر الأساسي.

5- مأخوذة من “دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب، الجزء الأول، والمقاطع الموجودة بين مأخوذة عن كتاب السيد مصطفى دندشلي: حزب البعث العربي الاشتراكي، فصل “البعث في الأردن (ص 173-178، المستقاة بدورها من “نضال البعث” ووثائق حزبية أخرى غير متوفرة لدينا حالياً.

6- من بيان “مجلس الحزب” حول مشاكل سورية الداخلية، ومشاكل الوطن العربي /20 أيلول 1947/ [نضال البعث، الجزء الأول، ص 206].

7- نذكر أن قرار حل الحزب، كشرط لقيام الوحدة، أقتصر على سورية ومصر فقط- ولا ينطبق على الطلاب العرب- غير المصريين الذين كانوا يدرسون في مصر.

8- كان عدد نواب الحزب 17 + 5 مؤيدين وأصدقاء= ” 22″ (كتلة الحزب)…في برلمان (1954-1958) وهو آخر برلمان قبل الوحدة التي أقرها بالإجماع باستثناء خالد بكداش، أمين عام الحزب الشيوعي السوري الذي بادر لمغادرة القطر ولم يصوت على الوحدة.

9- أذكر أيام انتخابات 1947 –وفي مجال تزوير السلطة الفاضح.. أن الرئيس شكري القوتلي زار اللاذقية.. ليتدخل بنفسه، لجمع ومصالحة “الحزب الوطني” وحزب الشعب” اللذين كانا مختلفين – محلياً- حيث كان “حزب الشعب” الذي تشكل (حديثاً) من الطبقة البرجوازية ذاتها، ومن رحم “الحزب الوطني” بدأ ينافس الحزب الوطني القديم. ويتعاون-بشكل ما، لظروف خاصة بتلك المرحلة، مع حزب البعث في تلك الانتخابات، التي كان من الواضح نجاح مرشح الحزب الدكتور وهيب الغانم، والدكتور أمين رويحة مرشح حزب الشعب فيها-لولا تلك الزيارة (الرئاسية)).. وتدخل القوتلي الشخصي، ووضع كل قوة السلطة و(زعرانها) لتزوير تلك الانتخابات.. فقد كان من المعروف للجميع أن الدكتور وهيب يحظى بشبه إجماع شعبي في قضاء اللاذقية.. الذي كان أول وأهم معقل للحزب في سوريا.. وأصبح.. بعد توقف التزوير الفاضح لاحقاً… بفعل تطور نضال الحزب والجماهير.. مغلقا لمرشح الحزب في جميع الدورات…

..ورغم دعوة الدكتور وهيب، للمشاركة في استقبال القوتلي عند حدود المحافظة.. (لإيهام) الشعب (وتطمينه)، بأن الحكومة (حيادية).. لأن الشعب كان يخاف من (الحكومة).. فقد حاولت مجموعات (مرشح السلطة) العشائرية، بالتعاون مع الحزب الوطني ورجال الدرك بالذات.. قطع الطريق علينا.. وحصلت صدامات كادت أن تصل بالبعض إلى الموت… ولولا تدخلنا بعد ذلك وطوافنا على قرى الساحل، التي أشيع فيها أن بعض (زعماء المنطقة) قد تعرضوا للاعتداء.. ونفي تلك الإشاعات وتهدئة الخواطر.. كان يمكن أن تحدث صدامات واسعة وخطيرة في ذلك الوقت…

عن ابراهيم معروف

شاهد أيضاً

مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس (الحلقة التاسعة)

ملاحظات تحليلية حول بعض ما جاء في دستور الحزب ومؤتمره التأسيسي *- نظرا لوضوح معظم …