مذكرات الدكتور ابراهيم ماخوس – الحلقة الحادية عشرة –

الحزب و الانقلابات العسكرية(1)

= في المرحلة السابقة للوحدة =

تمهيد:

إن تركيزي على بعض المحطات الأساسية من مسيرة الحزب، التي تبدو بعيدة –زمنياً- عن قيام حركة 23 شباط 1966 ليس عبثاً، وبهدف التكرار والتطويل والعودة إلى رواية تفاصيل تلك الأحداث المعروفة، والمسجلة في وثائق الحزب السابقة التي يمكن أن يطّلع عليها من يشاء، بل تحليل خلفيات وحركات تلك الأحداث، واستنتاج عبرها ودروسها الهامة، ونتائج وانعكاسات ذلك على الحزب والوطن والأمة، وكذلك -وهذا هام جداً- لأن حركة 23 شباط هي ابنة هذا الحزب، وجزء أساسي حي لا ينفصل من تاريخه، واستمرارية نضال تياره اليساري الجذري، منذ مراحل التبشير والتأسيس الأولى وحتى الآن. وبالتالي لا يكفي – لفهمها واستيعابها بموضوعية وإنصاف – في حالات الإيجاب والسلب، الإنجازات، أو الأخطاء، النظر إليها بصورة مجزأة، والاقتصار على ذكر أسبابها المباشرة وآلياتها التنفيذية، وتجربتها (الزمنية) المحددة فحسب، بل لابد من وضعها في سياقها العام من حياة الحزب ككل.

* وإنه لا يمكنني كمناضل قديم، ارتبطت حياتي بهذا الحزب منذ مراحل التبشير وستبقى حتى الموت، (لا بفعل= العصبية والاستمرارية الآلية) بل لإيماني الراسخ به كضرورة حيوية لهذه الأمة، لم تفرز بديلاً له حتى الآن، نعتز بتاريخه النضالي المجيد، ودوره المتميز والسباق في بلورة أهداف الأمة الأساسية في: الوحدة والحرية والاشتراكية، وفضله الذي لا يضاهي في نشر الأفكار القومية الوحدوية التقدمية في الوطن العربي. لا يمكنني، وأنا أشير إلى بعض الأخطاء التي ارتكبها أي قائد، من المؤسسين على الخصوص، (كما ورد في الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب) أن أسحب ذلك على الحزب كحركة ثورية، أو أقبل- بأي حال- أن يستغل أي كان، هذا النقد الموضوعي للأخطاء التي وقعت خلال مسيرة الحزب، – مهما بلغ من القسوة – لتشويه حزبنا، والإساءة إلى بطولات عشرات الآلاف من مناضليه البواسل، وتضحيات شهدائه الخالدين الجليلة، أو التنكر لدور أولئك القادة الأساسي في مراحل تأسيس الحزب بالذات.

فالخلط مرفوض، هنا، كما هو مرفوض في الحالات المشابهة، حيث لم يخل تاريخ أي حزب في العالم، أو حتى حركة دينية، من الأخطاء التي يرتكبها بعض الأعضاء، أو الأتباع، التي قد تسيء إليها بدرجات متفاوتة، دون أن تؤثر على جوهرها الأساسي الصحيح، بل تقع مسؤولياتها على مرتكبيها فقط.

وأود أن أوكد مجدداً، وكلما لزم الأمر، وخاصة في مقدمة هذا الفصل الملتبس حول (الانقلابات العسكرية)، ومهما بلغ تجني وإسفاف بعض الذين يدعون أنهم من أتباع (القيادة التاريخية)، وخاصة أتباع الأستاذ عفلق رحمه الله، واتهاماتهم الظالمة الكاذبة لحركة 23 شباط 1966 التي يدسّونها، تعسفياً، في بعض طبعات سلسلة [نضال البعث] الجديدة، وغيرها من (تراث الحزب المشترك)، ( الذين أصبحوا يعتبرونه حكراً وملكاً شخصياً لهم!!!) خلطاً، وتزويراً، وتحريفاً، وتزييفاً، وإضافة وخوفاً، وفقاً لمصالحهم الخاصة المشبوهة، لاسيما بعد الانقلاب على الحزب ونظامه التقدمي السابق في سورية في 13  تشرين الثاني 1970…الخ. أود أن أؤكد بأنه لا يمكنني أن أقبل المس بوطنية وإخلاص أولئك القادة، الذين طالما أساء إليهم أمثال هؤلاء الأتباع.

وأكتفي أن أشير، بهذه المناسبة، إلى تصرفات هؤلاء الانتهازيين والمرتزقة والحاقدين، الذين أكلوا، ويأكلون، على جميع الموائد، وقفزوا، ويقفزون، بخفة مذهلة بين اليمين واليسار، أو العكس دون أن يرف لهم جفن، ويستقوون بالسلطات الحاكمة على حزبنا، الذي يواصل حمل راية 23 شباط 1966، ويستغلون وضعه الحالي الصعب، بمنتهى الخسة، كونه وهو في المعارضة الوطنية الديمقراطية بين شهيد، وسجين، وملاحق، ومشرد، بفعل أمانته على خط الحزب القومي المبدئي الراسخ من قضية فلسطين، والصراع العربي – الصهيوني، ومجمل القضايا العربية والدولية الأساسية المطروحة، ويتابع نضاله الشاق والمشرف، بقدر ما يستطيع، على طريق المشروع العربي الوحدوي الديمقراطي الاشتراكي الإنساني الحضاري المعاصر، الذي ولد من أجله الحزب.

وأقول لهؤلاء السفهاء أن (تبطّلهم الثوري) المأجور (لاحتراف) التهجم على حزبنا، لن يضيره بشيء، لأن الممارسة هي الأساس، التي تقيم الأحزاب والأشخاص في كل زمان ومكان.

 فكما يقول انجلز: “…لا ينبغي البحث عن حقيقة الناس في ما يقولون عن أنفسهم، بل في ما يفعلونه حقاً، ونحن مع لينين في قوله: “الحقد أسوأ مرشد للسياسة”، ويبقى عزاؤنا الحقيقي، ومرجعيتنا إزاء ذلك كله، في الآية الكريمة: “فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.

ونحن من جهتنا، بحكم تربيتنا الشخصية والحزبية والقومية الإنسانية، لا نقبل التشكيك بوطنية أي واحد من الأساتذة الثلاثة ( ميشيل وصلاح وأكرم) رحمهم الله، ولا أتبنى –شخصياً – أي شيء يكون قد ورد سابقا- عبر احتدام الصراع، في أية وثيقة حزبية بهذا المعنى، فهذا شيء، والأخطاء، مهما بلغت، شيء آخر. ومهما كانت درجة خلافاتنا وصراعاتنا، التي تبقى في (الإطار الوطني والقومي) لا يمكن الانزلاق إلى الخروج عن النهج الموضوعي والقيم النضالية والأخلاقية، التي تبرر وجود حزبنا من الأساس، وذلك رغم وصول بعض الأخطاء إلى مستوى الكوارث على الحزب والوطن والقضية، إلّا أنها تتعلق بطبيعة ومستوى وعي وقدرات أصحابها المحدودة تاريخياً، حيث لم تظهر القيادة الثورية التاريخية المطلوبة التي تحتاجها الأمة العربية، والمؤهلة لقيادتها حتى النصر الكامل، حتى الآن.

فما زالت تتوالى إجهاضات النهوض القومي منذ أكثر من قرن، جيلاً إثر جيل، ولما تحقق أمتنا العربية وحدتها القومية الطبيعية، من بين جميع أمم الأرض، التي كانت مجزأة، وتوحدت عبر التطور التاريخي منذ بداية عصر القوميات، مع أنها تنطوي على كل مقومات الوحدة المعروفة، التي تماثل، إن لم تفق، مقومات الوحدات القومية لدى معظم الأمم الأخرى، وذلك بفعل ظروف موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، متداخلة معقدة، سوف نتعرض لها لاحقاً.

ولذلك لا يجوز إلقاء الاتهامات (التخوينية) جزافاً، على القيادات العربية التي حاولت وفشلت، لمجرد الاختلاف معها. لأن (جوهر العدل – كما يقول ابن رشد:”أن يجتهد الرجل في طلب الحجج لخصومه كما يطلبها لنفسه”.

وكما يقول السيد المسيح: “من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر! “.

ولكننا نسارع إلى القول بأن التزام هذا النهج، لا يعني تبرير الأخطاء، وتمييع المسؤوليات، وطمس الحقائق، بل عدم تضخيم أخطاء وسلبيات الآخرين، أو انتزاعها من ظروفها المكانية والزمانية المحيطة، من جهة، وادّعاء الكمال المطلق، واحتكار الحقيقة وكل الفضائل والايجابيات من جهة ثانية.

فنحن لا نبرئ الجميع، حيث سقط عدد غير قليل، على طريق هذا الحزب الشاقة الطويلة، ولا يزال التساقط مستمراً، وقد يتواصل – بوتائر مختلفة- ما استمرت الحياة، فلا أحد يستطيع مصادرة المستقبل، وذلك بفعل عوامل عديدة جداً، لا مجال للتفصيل فيها هنا، وقد تجاوز بعضها الحدود العادية، المتعلقة بظروف الشخص نفسه فقط، إلى خيانة الحزب، وإصابته بأضرار فادحة، وانحراف البعض الآخر عن خطه وتشويهه ومسخه، وتعريض الوطن وقضايا الأمة لأفدح الأخطار.

* بعد هذا التمهيد التوضيحي، الذي نراه ضرورياً، ونرجو أن يكون مفيداً، ونحن نخوض في تلك المرحلة الشائكة من نضال الحزب، وموقفه من الانقلابات العسكرية التي حدثت خلالها، نود التأكيد على أن حدوث ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية في سوريا، خلال عام واحد هو 1949، [بعد 3 سنوات من جلاء القوات الأجنبية، و6 سنوات من إعلان الاستقلال]، ليس حدثاً عادياً عابراً، يجوز إهماله، وتركه هكذا، دون التحليل العلمي الواجب المعمق، بدعوى (فوات الوقت)، بل يشكل ظاهرة خطيرة جداً، وبالغة الدلالة، على أهمية القطر العربي السوري، ودوره القومي الأساسي، والصراع الضاري بين الاستعمارين الفرنسي والانجليزي القديم، والاستعمار الأمريكي الجديد، على احتوائه وبسط نفوذهم عليه، وتفادي وصول الانتفاضات الشعبية المتواصلة، ضد الحكم الإقطاعي- البرجوازي، الفاسد والعاجز، إلى قيام وضع ثوري في القطر السوري يصعب ضربه، ويشكل مركز إلهام وإشعاع قومي في المنطقة، وقاعدة انطلاق على طريق الوحدة القومية الديمقراطية التقدمية، مع الأقطار العربية المؤهلة لذلك وكشرط لتحرير فلسطين.

وفي إطار ذلك التسابق الإمبريالي للهيمنة على سورية والمحورين (العربيين) التابعين:

– المحور (الملكي) المصري- السعودي= الأمريكي= (وبقايا الفرنسي جزئيا، في سوريا ولبنان).

– والمحور (الملكي) العراقي- الأردني= الانجليزي.

قامت تلك الانقلابات الثلاثة:

1- انقلاب الزعيم حسني الزعيم (الأمريكي- الفرنسي) في 30 آذار (مارس) 1949.

2- انقلاب اللواء سامي حناوي (الانجليزي) في 14 آب (أوت) 1949.

3- ثم انقلاب العقيد أديب الشيشكلي (الأمريكي- الفرنسي) بمرحلتيه:

    – الأولى: (19 كانون الأول (ديسمبر) 1949 -2 كانون الأول (ديسمبر) 1951.

    – والثانية (  من ديسمبر  1951 إلى 25 شباط (فيفري  1954).   

  ولقد أدرك حزبنا بعد هزيمة 1948 عجز التحالف الإقطاعي-البرجوازي عن انجاز مهام المرحلة القومية- الديمقراطية، وفي مقدمتها مهمة تحرير فلسطين التي أصبحت ملقاة –بحكم تخلف وتبعية ذلك التحالف الرجعي- على عاتق تحالف العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، لقيام أوضاع وطنية ديمقراطية وحدوية في المنطقة.

كما أدركت القوى الأجنبية، من جهتها، نقمة الجيش، بعد   الهزيمة المذلة والمهينة التي ألقتها عليه (الطبقة الحاكمة)، وألقى هو المسؤولية الكاملة عليها، بالإضافة إلى نقمة الشعب على تلك الأنظمة الفاسدة، فبادرت إلى استغلال ذلك الزلزال الشامل، الذي كان ينبئ بولادة أوضاع وطنية ديمقراطية جديدة مبشرة، لاستباقها وإجهاضها، بالانقلابات العسكرية، وإخماد ذلك الزلزال، بعد أن أدركت عجز الأنظمة الرجعية القائمة عن ذلك، وخداع الجماهير (الحبلى  بالثورة) بأجنة الانقلابات الهجينة المشبوهة. إذ كانت تلك الجماهير ترحب – للوهلة الأولى- بتلك الانقلابات، التي كانت تطلق في البداية، وريثما تتمكن، الشعارات التي سرقتها من الشعب، الذي كان يناضل للخلاص من الأنظمة الرجعية، إلى أن يستفيق على حقيقة تلك الانقلابات الديكتاتورية العميلة. وتتكرر مأساة (الحلقة الجهنمية) المعروفة وهكذا، باستثناء بعض محاولات النهوض الوطني والقومي التي حاولت الإفلات من طوق ذلك (المسلسل ) الامبريالي، وتم ضربها وإجهاضها كذلك، وصولاً إلى الأوضاع الراهنة البائسة.

ذلكم هو مضمون تلك الانقلابات العسكرية: ضرب وإجهاض الحركة الشعبية الصاعدة بعد هزيمة حرب فلسطين، وتحقيق أهداف الاستعمار والامبريالية والصهيونية في المنطقة، التي حال نضال الجماهير وقواها التقدمية دون تحقيقها، إبان المراحل السابقة، والصراع على النفوذ بين الضواري الامبرياليين.

 *      *      *

     *…الآن وبعد أن “استعرضنا ذلك النضال الوطني- القومي المشرق والمشرّف الذي خاضه الحزب، منذ البداية وحتى عام 1958، لابد لنا من المراجعة النقدية المكثفة، لأهم الأخطاء الخطيرة التي ارتكبها في تلك المرحلة، والتي تمثلت بصورة خاصة في موقفه من الانقلابات العسكرية التي بدأها “حسني الزعيم” في القطر السوري، ولم تنته حتى الآن! وذلك بالاستعانة ببعض المقاطع المأخوذة من وثائق الحزب المشتركة بالذات، حول تلك الانقلابات” ] نضال البعث الجزء الأول والثاني والثالث] الموضوعة بين هلالين كبيرين [ ]، “والتي تلخص موقف الحزب الانفعالي المرتبك والمتناقض، وقصر نظر وعي قيادته إذ ذاك…”.

الحزب وعهد حسني الزعيم(2)

لقد ذكرنا في الفصل السابق، أن الصدام بين الجماهير وبين النظام الإقطاعي البرجوازي الرجعي قد وصل إلى الذروة، ورغم الأساليب الدموية التي اتبعها النظام(3) “فقد كانت الحركة الشعبية والقوى السياسية الوطنية في تعاظم وصل حدود تهديد أسس النظام القائم، ومنعه من الإقدام على اتخاذ بعض القرارات التي تكرس الهيمنة الامبريالية في القطر، فلجأت لأداتها القمعية الأخرى في الجيش، فأعلنت الأحكام العرفية، وكلفت قائد الجيش “حسني الزعيم” في البداية، بالإشراف على الأمن الداخلي. ثم جاء انقلابه في 30 آذار/ مارس 1949، وهو الانقلاب الأول في سورية(4) ، بالتواطؤ مع الدوائر الأمريكية، والفرنسية، وبعض الأوساط البرجوازية التابعة لها، كمحاولة لقطع الطريق على تنامي الحركة الشعبية والسياسية، وإدخال سورية في حلبة الأحلاف والمحاور (…) [“فأقدم على اعتقال رئيس الجمهورية “شكري القوتلي” وأعضاء الحكومة وإرغامهم على تقديم استقالتهم، ونصّب نفسه حاكما للبلاد، فسقط بذلك حكم البرجوازية (البرلمانية) ].

– [” وعلى الرغم من أن الانقلاب كان مفاجأة تامة للحزب، ومع أنه طرح وضعاً جديداً تماماً لم يتهيأ الحزب لمواجهته، إلّا أن الحزب شارك ومنذ الساعات الأولى في المسيرات الشعبية التي انطلقت لتأييده، منددة بالفئة الحاكمة المنهارة. وبفسادها وتسلّطها، ومؤامراتها وخياناتها. لقد كان الحزب يشعر أن كابوساً حقيقياً قد انزاح، وأن بوسعه أن يتنفس الصعداء، كل ذلك دون تقدير أبعاد الانقلاب والدوافع الكامنة وراءه.

 وكان لا بد من مضي بضعة أيام حتى يستطيع الحزب أن يلم بما وقع ويجدد موقفه منه رسمياً. فقدمت “اللجنة التنفيذية” للحزب في الرابع من نيسان (أفريل) مذكرة إلى قائد الانقلاب، أعلنت فيها تأييدها وقدمت المطالب التالية:

  1. تشكيل حكومة مؤقتة موثوقة.
  2. تطهير جهاز الحكومة.
  3. تأييد الحريات العامة.

   4- إجراء انتخابات نيابية، وإعادة الحياة الدستورية.

وأتبعتها في السادس من نيسان 1949 بمذكرة طلبت فيها إرجاء التصديق على اتفاقية ( التابلاين) بعد أن تبين أن قائد الانقلاب قرر التوقيع عليها، ولم يمضِ على قيامه بانقلابه أسبوع واحد، هذه الاتفاقية التي كانت البرجوازية الحاكمة، قد قبلتها، ولكن لم تستطع التصديق عليها وإبرامها رسمياً، بسبب ضغط التحرك الجماهيري الواسع الذي قاده الحزب ضدها، والتي وصفها إذ ذاك “بأنها عقد تأجير للشعب والبلاد لدى الشركات والدولة الأمريكية”. وعلى الرغم من أن موقف قائد الانقلاب من اتفاقية ” التابلاين” كان إشارة واضحة إلى اتجاهه، إلا أن الحزب استمر في التأييد المشروط!!! والقيام بدور الناصح الأمين!!! (علامات التعجب من عندنا).

 وقد استفاد الحزب من مناسبة حلول الذكرى الثانية لتأسيسه (7 نيسان 1947) فنظم مسيرة أعلنت أن ما حدث في سورية ليس انقلاباً، وهو في الواقع خطوة نحو الانقلاب الشامل الذي يجب أن نسعى إليه دائماً، والذي يحقق للشعب العربي في جميع أقطاره الاشتراكية العربية والوحدة العربية. وإذا كان الانقلاب(5) في سورية سيكون على هذا المنوال، فإننا مستعدون والشعب كله مستعد، لأن نبذل في سبيله الدماء…)(6)!!!! (من خطاب العميد ميشيل عفلق في مظاهرة التأييد للانقلاب في 7 نسيان1949- الذي يمكن مراجعته كاملاً في نضال البعث- الجزء الأول- الطبعة الثالثة- كانون الأول 1972- ص 272-273).

        [” ولم يكد ينقضي شهر على وقوع الانقلاب حتى تبين بصورة سافرة أن البلاد مقبلة على ديكتاتورية فردية عسكرية، فتم تشكيل حكومة من (التحالف الطبقي السابق ذاته) (برئاسة الإقطاعي محسن البرازي الذي كان وزيرا للتعليم في الحكومة السابقة للانقلاب- لتجديد خيول العربة المتعبة) وألفت لجنة من (الموظفين) لوضع الدستور، وأوقفت بعض الصحف عن الصدور، ووقع مع فرنسا اتفاقية النقد المعلقة، واتفاقية التابلاين مع الشركة الأمريكية، كما وقع اتفاقاً مع شركة نفط العراق الإنجليزية   (I.P.C) لتمديد خط ثان عبر الأراضي السورية، وكذلك اتفاقية الهدنة مع (إسرائيل)، وتخلّى عن القسم الذي احتله الجيش السوري في شمال فلسطين في حرب 1948 للسلطة الصهيونية، واستخدم مستشاراً عسكرياً تركياً للإشراف على تدريب الجيش، وأدخل الجيش في حمأة الصراعات السياسية.

… وهكذا أرضى حسني الزعيم جميع أعداء الأمة العربية دفعة واحدة، وبسرعة مذهلة حقق الانقلاب في شهر ما عجزت البرجوازية الحاكمة عن تحقيقه في أكثر من سنة، بسبب ضغط الشارع والمعارضة الجماهيرية، وتبين أن الانقلاب استغل النقمة الشعبية على البرجوازية الحاكمة، فانقلب عليها وفرض ديكتاتورية عسكرية لتنفيذ مخططاتها نفسها، ولم تجد عدة مقابلات قامت بها قيادة الحزب للديكتاتور]!!! [فرفع الحزب في الرابع العشرين من شهر أيار ( مايو ) 1949 مذكرة  أخيرة، طالب فيها بتشكيل حكومة ائتلافية من الأحزاب والهيئات التي مثلت المعارضة في المرحلة السابقة، وبإعادة الحريات الكاملة للأحزاب وصحفها، وبإجراء انتخابات نيابية، ووضع دستور جديد.

وعلى إثر هذه المذكرة أصدر حسني الزعيم أمرا بملاحقة الحزب، فألقى القبض على قيادته (وفي المقدمة الأستاذين: (عفلق والبيطار)، وأخذت أفواج الحزبين طريقها إلى السجون والمعتقلات، وفرض حسني الزعيم ديكتاتورية إرهابية، ونصّب نفسه رئيسا للجمهورية. غير أنه لم يلبث أن أُسْقِطَ بانقلاب مضاد قام به الجيش برئاسة اللواء “سامي الحناوي” لقي مصرعه على أثره في شهر آب (أغسطس) من العام نفسه بعد أن دام حكمه أقل من خمسة شهور”](7). = انتهى النص المأخوذ من نضال البعث المذكور-ص 22-23=. وذلك بعد أن حقق كل الأهداف الخيانية التي جيء به من أجلها.

ومن المفيد أن نشير إلى بعض أساليب الانقلابيين الخبيثة، الذين يبادرون في البداية، وقبل أن تنفضح حقيقتهم، إلى (سرقة) شعارات الجماهير والقوى الوطنية الديمقراطية المعارضة، والإمعان في ترديدها، عبر تصريحاتهم وبياناتهم الأولى، بغية تضليل وخداع الجماهير، وتهدئتها وضمان ولائها، ريثما يتم تثبيت دعائم الانقلاب، ثم الانقضاض عليها تدريجياً، بوجهه الديكتاتوري الكالح  العميل.

فمن تصريحات حسني الزعيم الأولى -على سبيل المثال(8) قوله: “…إن حالة الفوضى والضياع، والفساد والخيانة، التي يتخبط فيها النظام القديم، وكذلك إلغاء الديمقراطية، والإمعان في خرق الدستور والقوانين، كل ذلك دفع الجيش إلى أن يتدخل ليضع الأمور في نصابها. “مختتماً حديثه بالقول “اليوم الطرق مفتوحة أمام الشعب العربي في سورية ليسير قدماً نحو تحقيق رسالته الخالدة” !!! لاحظوا أنه وصل إلى درجة ترديد شعارات حزب البعث بالذات”!!!

…  وأوضح في البلاغ رقم (1):

أن الجيش اضطر إلى تولي السلطة بصورة مؤقتة، ودون أن تكون لديه الرغبة في البقاء فيها، وإن الهدف من هذا العمل كان فقط التحضير لإقامة نظام ديمقراطي حقاً” …الخ.

– ومثال آخر لسرقة وترديد شعارات “البعث” التي رفعها إبّان (الانتفاضة)، كتعبير عن مطالب الجماهير، ما جاء في أول خطاب له في 4 نسيان 1949، المصدر ذاته ص 125- 126، حيث ” أعرب عن رغبته في تطهير الإدارة، ومحاكمة المسؤولين عن النظام القديم…” وإرساء قواعد نظام جديد، تقدمي قائم على أساس حاجات الشعب”.

…” وأكّد بالنسبة للعمال والطبقات الكادحة: « تحقيق العدالة الاجتماعية، وإعادة النظر في توزيع الأرض، ووضع قانون يحدد الثروات الكبيرة، والعمل على رفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية” …الخ.

وبسرقة تلك الشعارات لم يتمكن فقط من خداع الجماهير العادية، بل وخداع طليعتها “البعث” وحتى قيادته بالذات. لقصور الوعي وضعف الخبرة. وهذا يفسر ما حدث، ولكن لا يبرره بأي حال. أما المصيبة فهي تكرار وقوع تلك (القيادة) إياها – بنفس السذاجة- في أفخاخ الانقلابات العسكرية المتتالية (كالحناوي والشيشكلي) في بداياتها دوماً. ثم دفع الحزب خاصة والشعب عامة، ثمن النضال والتضحيات، وخسارة مراحل تاريخية ثمينة، لا تعوض، لإسقاطها. وحجتنا على هذه القيادة في هذا المجال بالذات- ضرورة الاتعاظ بالحديث النبوي: ” المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”.

…”ومن الضروري مراجعة تلك المذكرات، وخطبة عميد الحزب في 7 نيسان 1949، وغير ذلك من المقالات حول موقف الحزب من ذلك الانقلاب، حيث دعا الأستاذ ميشيل عفلق، في تلك المظاهرة الشعب عامة، إلى الاستبشار والأمل، قائلاً:

[…” لقد كانت تقوم في وجه إخلاصك وحيويتك، ووطنيتك، عقبات جسيمة، وعراقيل  دائمة، هي عقبات متراكمة من الفساد والاستبداد والاستثمار، والشهوات الدنيئة والمؤامرات والخيانات، وفي عمل واحد، أزيلت من طريقك هذه العقبات، وانفتح الطريق أمامك (!!!) فلا عذر لك بعد اليوم، لأن ما سيقوم بهذه البلاد من سياسة وأعمال، إنما أنت الذي ستقوم به، فلا إرادة فوق إرادتك..” ](9)

… فأية عقلية غيبية؟ إذ كيف يتصور قائد حزب كهذا، أن الانقلاب العسكري […” قد أزاح بضربة واحدة كل العراقيل والفساد من أمام الشعب، وفتح أمامه طريق المستقبل..”]؟ !!!

           والحقيقة “أن هذه العقلية (الذاتية المثالية) القاصرة قد ساهمت بدورٍ كبيرٍ في جر الانتكاسات على الحزب والوطن”….” وإن ذلك الانقلاب يشير ليس فقط لعجز وإفلاس البرجوازية الحاكمة، وقرب سقوطها- بعد أن أغرقت البلد في الدماء- لصالح الحركات الشعبية، واضطرار أجنحتها الأكثر يمينية وارتباطا بالامبريالية لاستخدام الانقلاب العسكري، باعتباره الوجه الآخر المعبر عن مصالحها، والأكثر قدرة على إجهاض وتصفية الحركة الجماهيرية” (حيث شكلت الوزارة وأدوات الحكم الرئيسية من نفس المسؤولين عن العهد البائد، ومن أكثرهم رجعية وعمالة…]..

“ولكنه يشير أيضا لعجز قيادة الحزب التاريخية القاصرة والمتخلفة عن الحركة الشعبية النشيطة المتعاظمة، و(سقوط) تلك القيادة عملياً منذ الاختبار الأول، حيث وقع الأستاذ ميشيل عفلق إذ ذاك (رسالته) المشهورة التي وجهها إلى حسني الزعيم، ومع ذلك بقيت تقود الحزب إلى المزيد من النكبات”.(10)

…” ولقد كانت تلك المواقف، في جوهرها، تنبع أيضاً، من فقدان العقلية العلمية، وسيادة النفس النضالي القصير للبرجوازية الصغيرة، للقبول بالانقلابات العسكرية، كبديلٍ للثورة الشعبية العامة= التي لا يجوز إهمال دور الجيش فيها طبعا= ولكن كجزء من الحركة الشعبية، وتحت قيادة حزبها، أو جبهتها الوطنية وليس بديلا عنها”.

… ومن المفيد جداً أن يطلع الرفاق على (مقالي) الأستاذ” صلاح البيطار” اللذين نشرهما في جريدة البعث” العددين 408 و409 / في30 و31 آذار (مارس) 1950/ ص52 – من نضال البعث- الجزء الثاني= بمناسبة الذكرى الأولى، للانقلاب العسكري الأول= انقلاب حسني الزعيم الذي نورد (أولهما) بنصه الكامل (دون قصد الإساءة للأستاذ صلاح والتقليل من تضحياته ونضاله المجيد رحمه الله)… بل لأنه يغني عن أي تحليل، كونه يعبر موضوعياً- عن عقلية تلك القيادة حتى بعد عام من الانقلاب الساقط!!! تلك العقلية غير العلمية، التي لم تتغير (جوهرياً)، حتى استشهاده غيلةً وغدراً، بكل خسةٍ ونذالةٍ في مدينة باريس صيف 1980).

” انقلاب 30 آذار (مارس) 1949/ زعزع القصور، وحطم الأصنام، وفتح للتفكير الانقلابي أبواب الأمل، فلنكن أوفياء لذكراه”] ؟؟ !!! =هذا هو عنوان المقال الأول وعلامات الاستفهام والتعجب من عندنا-:

[” في مثل هذا اليوم من العام الماضي وما بعده، عاشت سورية أياماً تاريخية ملأى بالحوادث الجسام التي هزت الفكر العربي في سورية وفي الأقطار العربية، وحولت مجرى السياسة فيها، ففي صباح ذلك اليوم أفاق الناس، وذهلوا عندما علموا أن انقلاباً عسكرياً قد تم على يد الجيش، وأن أولئك الذين كانوا يتحكمون بالشعب قوةً واقتداراً قد نازلتهم القوة فأنزلتهم عن عروشهم، وقضت على عهدهم المليء بالمخازي والمآسي، ورفعت عن الشعب حكمهم الموبوء بالكذب والفساد والطغيان.

        ولا عجب أن يستقبل الشعب الانقلاب في ذلك اليوم بالسرور والغبطة، ويبدي لمجموعة الضباط والجنود الذين نفذوه، وأكثرهم من الشباب العربي المناضل(11) كبير إعجابهم وتقديرهم، فأساليب الفئة الحاكمة آنذاك أدخلت في نفسه اليأس القاطع من كل إصلاح على يدها، وأرته بأم عينه الهوة التي تدفعه إليها يوماً بعد يوم، وأوحت إليه أن السبيل الوحيد للخلاص هو التخلص من تلك الفئة. وإلى هذا الحد من التفكير والإحساس لا يمكن إلّا أن نسلم بسلامة تفكير الشعب، وبصدق حسه، أما القول بأن ما تم بعد الانقلاب لم يكن ذلك الذي ابتغاه الشعب، فتلك مسألة أخرى، والمسؤولية فيها أبعد من أن تنصب على الشعب، بل تصيب القادة السياسيين وحدهم، هؤلاء الذين عجزوا عن الإفادة من الانقلاب العسكري، فلم يسارعوا إلى إحاطته بالعناصر الشعبية الحقيقة قادةً وجمهوراً وأحزاباً، ليحفظوه من كل انحراف، مثل الانحراف الذي وقع على يد زعيم الانقلاب، ولم يعد من الممكن تصحيحه إلا بانقلاب مماثل(!!!) …

صحيح أن زعيم الانقلاب لم يكن يؤمن بذرة مما كان يكتب له من بيانات وتصريحات عن الأهداف القومية والشعبية والديمقراطية، وصحيح أن شخصيته كانت طاغية على كل من حوله، فجمع بين يديه سلطات التشريع والتنفيذ، ولكن هذا عرف فيما بعد (!!!)…

ولو وقفت العناصر السياسية، وتكتلت في جبهة واحدة، ورسمت لها برنامجاً منذ الأيام الأولى لاكتسبت إلى برنامجها أولئك الضباط المؤمنين بالأهداف القومية والتقدمية الذين أبعدهم “الزعيم” فيما بعد واحداً بعد واحد، ووضع خطة لإبعاد الباقين منهم. ولو فعلت ذلك لأمكن لها إما توجيه زعيم الانقلاب، أو مجابهته كتلة واحدة، ولامتنع على الأكثر ما تم “للزعيم” فيما بعد من تجزئة المعارضة واضطهادها والضرب على يدها حزبا بعد آخر، ولما لقي للزعيم تلك النهاية التي جر نفسه بنفسه إليها(12).

ومع هذا فها نحن أولاد اليوم، بعد انقضاء سنة كاملة على الانقلاب نجد أنفسنا أمام سؤال السائلين: ماذا جنت البلاد من الانقلاب؟ وقبل إعطاء الجواب نورد هذه الملاحظة: وهي أن بلوغ الأهداف لا يتم وهلة، ولا يتم بصورة خاصة من دون نضال عنيف ومستمر. والذين يطنون أن إدراك الأماني بالتمني هم في جهلٍ كبيرٍ، وكل يُجزى حسب عمله.

أما الجواب على السؤال السابق فهو أن الانقلابات التي وقعت كانت عسكرية، وقد أدت مهمتها في حدود أهداف العسكريين،(13) فأزالوا الألغام التي وضعها المتحكمون في طريق تقدم الشعب، وفتحوا له ثغرة الانطلاق والاندفاع لتحقيق الأهداف الشعبية، وإلا بقي الانقلاب سلبياً كما هو اليوم.

ومع ذلك فهذا الانقلاب العسكري الذي تم في 30 آذار 1949 قد حطّم الأصنام التي احتمت في القصور. وزعزع القصور التي ركنت إلى حماية الأصنام، وهو فوق ذلك فتح أمام التفكير الانقلابي، والعمل النضالي الأمل والتفاؤل بصحتهما وجدواهما….(!!!).

لقد فتح الانقلاب الطريق أما الثورة السلمية، وهو يدعونا يومياً لعبوره، فلنكن أوفياء لهذا اليوم التاريخي العظيم ولنحيي ذكراه في قلوبنا، بعد أن منع عنا ذكراه السياسيون الرسميون]”!!!(14)

“ثم أعقبه في اليوم التالي بمقال آخر بعنوان [الثورة السلمية، بعد الانقلاب، في إخفاقها نشوء الثورة والانقلابات]”(15).

” بنفس روح المقال الأول، مع تبرير الانقلاب الثاني (الحناوي) على الانقلاب الأول…”

” وفي كلمة له في 12/ تشرين الثاني / 1950/ في حفلة حزبية في مكتب البعث في دمشق قال:

…[” إن العهد الحاضر وليد الانقلابات التي جرت في سوريا، وموقف الحزب منها كان دوماً معها وداعماً لها، ومكافحاً ضد كل رجعة لعهود ما قبل الانقلاب، وأن موقفه هذا كان موقفاً عفوياً، لأنه موقف الشعب الذي أيّد الانقلابات، لأنها عبّرت عن إرادته في التخلص من الفئة الحاكمة”](16).

*وهكذا كان (يبرر) موقف الحزب (العفوي) بالتحجج (بعفوية الجماهير)… بدلاً من المفهوم الطليعي للحزب الثوري، الذي يفترض أن يفهم الخلفيات والقوانين المحركة للأحداث، وأن يدرك حقيقة الانقلاب بسرعة، ويتولى توعية الجماهير بذلك، وتسليحها بالوضوح الثوري. وهنا تكمن (عقلية الانقلابات العسكرية) الإنتظارية والذيلية، التي تلحق الحزب بالعسكريين، والمخاطر التي جرتها، ولا تزال، على الوطن والشعب والحزب.

إننا إذ نطيل في موضوع ” انقلاب حسني الزعيم”، ونركز على موقف الحزب منه، فلأنه الحلقة الأولى في المسلسل الجهنمي المتواصل، الذي لم يتعلم منه الحزب الكثير، رغم القرارات الحزبية الواعية والمستوعبة التي صدرت بهذا لصداد، والتي لم يجر التقيد بها لاحقاً.

ونحن – كما أكدنا- في الدراسة الأولية لنقد تجربة الحزب” التي ننطلق منها أساساً، لن نعود إلى الماضي للغرق فيه، بل بقدر ما يخدم نضال الحزب الحاضر، وينير أمامه طريق المستقبل.

ولذلك، ونظرا لوضوح مقالات وخطاب الأستاذ صلاح (البيطار) ، نكتفي بالتساؤل (الاستنكاري): كيف يمكن للشعب وقواه الوطنية المعارضة التمكن من الاستفادة من انقلاب مشبوه، خططت له الدوائر الامبريالية، ونفذه عملاؤها؟! وكيف يتصور الأستاذ صلاح، وهو أحد مؤسسي الحزب المعروف بطيبته، ونضاله الصادق، وإخلاصه الشديد، أنه كان بالإمكان الإحاطة بذلك الانقلاب، وإقناعه بترك العمالة، والتخلي عن القوى المعادية التي دفعته إلى ذلك؟. أبهذه (اللّوات) التي رددها الأستاذ كثيراً، وتستخدمها كذلك معظم القوى السياسية، ونحن منها مع الأسف- رغم أن “لو” هذه بغيضة، ومستنكرة جداً في الدين الإسلامي خاصة، ومرفوضة كذلك في النهج الماركسي- اللينيني، لأنها تعبر عن (العقلية السحرية)، وإسقاط الرغبات الذاتية على الواقع. لنخلص إلى القول: هل يستغرب الرفاق، اليوم، والحالة تلك، ومع هذا النهج اللاعلمي، الذي كان سائداً في الحزب، مسلسل الأزمات المزمنة المتلاحقة التي مزقت الحزب، وأوصلته إلى المصير الحالي البائس؟ !!!..

*          *           *

ولابد لنا لاستكمال الصورة، من استعراض بعض الوقائع والتصرفات الحزبية الأخرى التي جرت في تلك الفترة، ورأينا في كل ذلك:

[جلسات الدورة الأولى للمجلس الجديد في حزب البعث العربي (دمشق=15-17/4/1949] الذي حضره مندوبون من فروع سورية وشرق الأردن وتعذر مجيء ممثلي الحزب في العراق(17).     

  لقد صدرت عن تلك الدورة “نشرة داخلية دورية”  في 6 أيار 1949، عن التقرير الذي قدمه “العميد” – عن أعمال الحزب، بإشراف اللجنة التنفيذية خلال السنتين الماضيتين، نكتفي فيها بإيراد البندين (9) و (10) فقط.

[9- تأييد الحزب للانقلاب، وقيامه بمظاهرات جزئية في المدن السورية، وذكر التقرير أسباب هذا التأييد بالنقاط التالية:

أ- إن سياسة العهد البائد كانت ستؤدي لا إلى كارثة وطنية فحسب بل قومية، فلابد من الانقلاب ومن الضروري أن يُؤيد مادام حدث على يد جيش وطني.

ب- إن لحزبنا أثراً في تهيئة الانقلاب، وفي تهيئة الأفكار طوال سنوات استمر فيها حزبنا في نشر ضرورة الانقلاب، وقد تسربت هذه العدوى إلى الجيش، كما أن اتصالنا مع بعض الضباط والجنود في فلسطين كان له أكبر الأثر.

ج- إن نضال البعث العربي ضد حكومة “مردم” أظهر للجيش إمكان التخلص من الفئة الحاكمة بسهولة. وقد مهّدت الإضرابات الأخيرة التي نظمها الحزب ودعا إليها ضد اتفاقيتي النقد والتابلاين لتقبل الانقلاب.

10- تقديم مذكرة إلى رجال العهد الجديد، فيها تأييد للانقلاب ولزوال العهد البائد، ومطالب لعودة الحياة الدستورية إلى البلاد. وقد كان لها صدى عظيم في سوريا والعالم العربي]…

وتقول “النشرة” [“أن أحد الأعضاء طلب من قيادة الحزب برنامج لسياسة الحزب (…) كما انتقد أحد الأعضاء “اللجنة التنفيذية”، لعدم دعوتها مجلس الحزب إلى الاجتماع لتقرير سياسة الحزب (…) كما وجّه عدد من الأعضاء انتقادات إلى اللجنة التنفيذية لعدم توضيحها مبادئ الحزب الأساسية..الخ).

…[ وبعد نقاش طويل رد عميد الحزب على أسئلة الأعضاء وانتقاداتهم، ثم جرى نقاش طويل حول اشتراك الحزب في الحكم بعد أن كلف بذلك، وانتهى بأنه أحيل إلى اللجنة التنفيذية للبت فيه](18) و(19).

الأمر الذي يشير إلى وجود معارضة مبكرة، لتلك القيادة في “مجلس الحزب” لا نعرف مداها وأشخاصها، ولم يوضحها (نضال البعث)، لأنها قد تكون ضد خط الأستاذ عفلق والقيادة عامة، لأن المشرفين على إعادة طباعته، يحذفون ويطمسون كل ما يخالف نظر تلك القيادة التاريخية، علماً أنه جرى انتخاب “العميد”، الذي كان يُنتخب دائماُ لوحده مباشرة [“بالإجماع”..وبتصفيق حاد] من الممثلين الذين كانوا 55 عضواً، وهذا يعني تحميل المجلس بكامله مسؤولية تأييد الانقلاب، وليس “اللجنة التنفيذية” أو بعض أعضائها فقط؟ ونأمل أن يوضح من بقي حياً ممن حضروا ذلك “المجلس” الحقيقة للأجيال، لأني في (ظروفي الحالية) غير قادر على الاتصال بأحد منهم لمعرفة الحقيقة، وأسماء الرفاق الذي كانوا معارضين بالذات.

        [وقد جرى انتخاب الأعضاء الستة للجنة التنفيذية (من المرشحين)، وفاز: صلاح البيطار، الدكتور وهيب الغانم، جلال السيد، الدكتور فيصل الركبي، الدكتور مدحت البيطار، عبد الرحمن المارديني..].

  • مجلس الحزب في دورة نيسان 1950 (بعد سقوط حسني الزعيم)-[نضال البعث-الجزء الثاني- الطبعة الثالثة-1973/(56-58).

لا يوضح هذا المصدر- كالعادة- حقيقة ما دار في ذلك المجلس، الذي عقد بعد سقوط حسني الزعيم، والانتقادات المؤكدة التي طرحت ضد الموقف من ذلك الانقلاب (التي أكرر رجائي للأحياء من أعضائه أن يقوموا بواجب توضحيها للحزب)، بل يلاحظ بالمقابل الإصرار في “مشروع النظام الداخلي الجديد” (الذي لم يقر بشكله الكامل، بل ترك أمره للقيادة لاحقاً، واستمر الحال، كما رأينا، كل مرة. منذ التأسيس، حتى المؤتمر القومي الثالث الذي أقر أول نظام داخلي كامل) على “حصر الصلاحيات بشخص واحد..” هو (العميد الأستاذ ميشيل عفلق)(…) “رغم اعتراض بعض الأعضاء البارزين في الحزب…” وخلافا لمبدأ القيادة الجماعية الذي كان يجب أن يترسخ نهائياً، وخاصة بعد كارثة الموقف من انقلاب حسني الزعيم.

        والملاحظ أيضاً، أن “العميد” كان قد انتخب في دورة نيسان 1949 السابقة القريبة [“بالإجماع وبالتصفيق الحار) كما رأينا، إلا أنه قُدِّم اقتراح بإجراء انتخاب “العميد” مجدداً حسب منطوق النظام الداخلي الجديد! ففاز الأستاذ ميشيل عفلق بـ (36) صوتاً من أصل (42)، أي لم ينجح بالإجماع، كما كان الحال منذ تأسيس الحزب وحتى هذه الدورة، رغم جهود الدكتور وهيب الغانم المكثفة لإقناع الرفاق…” [الذي ارتجل خطابا قيّما بهذه المناسبة= حسب المصدر ذاته] وذلك بسبب فجيعة الحزبيين بموقف الأستاذ ميشيل المعروف. وإصرارهم على ضرورة تغييره من العمادة، واعتزاله العمل الحزبي، واستلام الدكتور وهيب الغانم مكانه.(20).

…”ولكن… ورغم كل ذلك فإن الحزب لم يتعلم من تجاربه- كما يبدو- ولذلك غفر للأستاذ عفلق وأعاده مجدداً – أو بالأحرى ثبته في “عمادة” الحزب!!!”.. حيث ” استمرت القيادة في موقفها التبريري الخاطئ من الانقلابات العسكرية، ولم تقم بأية مراجعة نقدية حول ذلك، كما يجدر بالحزب الثوري؟!..

كما يلاحظ من بيان مجلس حزب البعث العربي: الذي عقد في اللاذقية (سورية) في أوائل  تموز 1951 (المصدر ذاته-ص167-168)، الذي جاء فيه حول ذلك ما يلي:

…[في سورية: عبر الشعب عن إرادته في كل مناسبة، وحاول أن يوجد الحكم الشعبي الذي أصبح يهدف إليه فلقد مهد بعاطفته، و مهدت عناصره الواعية للانقلاب العسكري الأول، الذي نال التأييد والحماس أملاً بتحقيق ذلك النوع من الحكم. وعندما اتضح عجزه، وانحرف عن غايته، تخلى الشعب عنه وأيّد الانقلاب الثاني والثالث كمصححين للأول، ومكملين له. وإذا كانت هناك إصلاحات شعبية بسيطة قد تحققت بعد كل هذه الانقلابات، فإن الحكم الشعبي الصحيح، والأهداف الشعبية مازالت أبعد بكثير كما يرى الشعب بين يديه”] !!!.    

        ولقد استمرت تلك النظرة السطحية الساذجة (للانقلابات العسكرية).. حتى “المؤتمر القومي المصغر” الذي عقد في مدينة  حمص في تشرين الأول 1953، (بغياب الأساتذة الثلاثة: ميشيل وصلاح وأكرم – كما سنرى لاحقاً).

وفي مؤتمر “مجلس” البعث العربي 27-29 أيلول 1950 [تم انتخاب قيادة من خمسة أعضاء هم: ميشيل عفلق، صلاح الدين البيطار، جلال السيّد، مدحت البيطار، عبد البر عيون السود…”]…

        ورغم انتخاب الأستاذ ميشيل عفلق في هذه القيادة، إلا أنه [سافر إلى البرازيل بعد هذا التاريخ بأيام قليلة] [“البعث”، العدد 468)- 14 تشرين الأول 1950) و[عاد إلى دمشق في 23 تشرين الثاني 1951].  [المصدر ذاته ص 103].

 “حيث كان لا يزال يعيش أجواء نفسية وحزبية غير طبيعية بعد قصته مع حسني الزعيم، أي غاب أكثر من عام عند خاله المهاجر هناك(21).

وفي غياب المصادر الحزبية الأصلية الدقيقة الكاملة، واجتزاء وطمس [نضال البعث في طبعاته المذكورة…] لبعض الحقائق حول تلك المراحل، وريثما يبادر الرفاق المعنيون للقيام بواجب توضيح ما عايشوه بصدق، نضطر أحيانا للاستعانة بما نسب إلى بعضهم في مصادر غير حزبية دون التأكد من صحة ذلك، سواء لعدم إمكانية الاتصال المباشر بهم حالياً، أو لأن بعضهم انتقل إلى رحمة الله.. مثال ما ورد في كتاب السيد مصطفى دندشلي “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الجزء الأول: 1940-1963،  والذي لا نتبنى كل ما جاء فيه، كما سنوضح في المكان المناسب.

        ومما جاء فيه الصفحة 145-146 منه حول بعض ما جرى في مجلس الحزب «دورة نيسان 1950 – ولم يذكر في نضال البعث-.. “ما يلي:” انبرى صلاح البيطار المؤسس الآخر للبعث، مدعوماً من جلال السيد، وهو أيضا عضو اللجنة التنفيذية للحزب، لتوجيه انتقادات عنيفة ضد صديقه ميشيل عفلق، ومحاكمته بكل معنى الكلمة (…)”، وذلك استنادا إلى كتاب جلال السيد “حزب البعث العربي” كما يقول < وذهب البيطار في حديثه، إلى حد المطالبة بإبعاده من الحزب، لأنه في رسالته إلى حسني الزعيم ألصق الإهانة بجميع البعثيين، بشكل غير مسؤول ومهين…”> من مقابلة المؤلف مع عبد البر عيون السود(22) بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير 1966.

        ويضيف: “في هذا الاجتماع أظهر المؤتمرون تسامحاً تجاه عفلق، على الرغم من اعترافهم “بخطورة الخطأ” الذي ارتكبه، وكان مبرر ذلك، وفقاً لما أورده عبد البر عيون السود: أنه، أي عفلق يبقى في نظرهم، على الرغم من كل شيء، “ضمانة أخلاقية”، وأنهم كانوا يخشون أن يمسك بزمام القيادة في الحزب صلاح البيطار أو جلال السيد. ولهذا السبب جدد المؤتمرون في جلستهم الختامية انتخاب ميشيل عفلق “عميداً” للحزب، تعبيراً عن تعلقهم به، وثقتهم فيه. على أساس ” النظام الداخلي الجديد” ” الذي جعل من ” العميد” الموجه الأول للحزب، والمنفذ لسياسته التي يرسمها المجلس”، الأمر الذي حجّم الأستاذ صلاح، ووضعه في مكانه الحقيقي (كظل) للأستاذ ميشيل…”.

– ولا نستطيع التأكد من موقف الأستاذ صلاح الانتقادي المذكور لأسباب عديدة منها:

ما ورد في مقالاته، التي ذكرناها في هذا الفصل، في ذكرى الانقلاب الأول  30 آذار 1950، مما يتناقض مع هجومه على الأستاذ عفلق، بعد حوالي أسبوع من ذلك، ويطالب بتنحيته من الحزب؟! الأمر الذي لا يصدق، ويحتاج لتدقيق أكثر، وخاصة بعد رحيل الاثنين  إلى رحمة الله.

ثم أن ما قيل لنا في جامعة دمشق، أن الأستاذ ميشيل كتب تلك الرسالة (المعنية) لأنه لم يتحمل ضرب وتعذيب وإهانة رفيق حياته الأستاذ صلاح أمامه، وأن الأستاذ ميشيل لم يُضْرَب ولم يُعَذّب، خلافاً (لروايات) جماعته المتأخرة، فلا يعقل والحالة تلك أن (يواجهه) الأستاذ صلاح بذلك الهجوم المذكور؟

        وكذلك معرفتنا المباشرة أيضاً، بالأستاذ صلاح المناضل الطيب المحترف النشيط المواظب على العمل، والذي كثيراً ما ضحى من ماله الخاص (حيث باع عقاراً ورثه عن والده كما علمنا إذ ذاك)، في سبيل تأسيس واستمرارية جريدة (البعث)، والذي لم نلحظ له أية تطلعات (زعامية) لتجاوز الأستاذ ميشيل، بل كان يمثل الوجه السياسي العملي في القيادة (قبل الدمج مع حزب أكرم) مقابل الوجه الفكري النظري للأستاذ ميشيل.

ومنها، بل وأهمها، معايشتنا المباشرة المتواصلة للأستاذ ميشيل طيلة السنوات السبع التي قضيناها في كلية الطب بدمشق (بين 48-49-54-55).

…”ومن الجدير بالذكر في هذا المجال- أن الأستاذ ميشيل كان يحرّض الحزبيين ضد مواقف الأستاذ صلاح السياسية، ومقالاته السياسية في جريدة “البعث” (الذي كان مديرها المسؤول، وكان عفلق مديرها السياسي، ويستخدمه ( كإسفنجة) لامتصاص النقمة الحزبية، واعتبار نفسه غير مسؤول، وفوق الأخطاء، وفي حالة تطهر دائم، حتى وصل الحد بالرفاق الحزبيين في تلك الفترة أن منعوا “صلاح البيطار” من دخول مكتب الحزب حتى تاب، واستغفر، وبكى بين يدي “العميد” الذي أعاد له اعتباره، وقد استمر في معاملته بهذه الصورة حتى ” القفزة النوعية” أواخر 1965 وأوائل 1966، (حيث كان قد فصل من الحزب إبّان قيادة حمود الشوفي- كما سنرى)، ثم أعاده إلى قيادة الحزب، ورئاسة الوزارة”.

وبالعودة إلى موقف الأستاذ ميشيل و(رسالته) إلى حسني الزعيم، لابد من التذكير- بداية وبكل موضوعية وصدق، بأن أفكار الأستاذ ميشيل كانت أكثر عمقاً وتكاملاً وانسجاماً وتواصلاً من أفكار بقية القيادات الأخرى في الحزب في مراحل التبشير والتأسيس الأولى- على الخصوص- واستمر كذلك حتى مراحل الأزمات والنكوص، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم المعروف، حيث شكلت (تلك الرسالة) العقدة النفسية الأولى المستحكمة في حياته.

وأخيرا دور الأستاذ عفلق رحمه الله، في تغطية وتبرير العديد من التصرفات الفردية واللاديمقراطية، التي تتناقض مع منطلقات الحزب الأساسية، حيث كانت لا تظهر أخطاؤه، ويظل أفضل من الجميع طالما ظل بعيداً عن السلطة، كونه خلق – كما يبدو – ليكون مبشراً، كما قال: “مهمتنا شق الطريق لا تعبيدها، نزع الأشواك لا زرع الرياحين، غرس الأشجار لا قطف الثمار…” الخ.

ومع ذلك كله، فلا يجوز النظر إلى شخصيته المتميزة، ودوره الفعال والأساسي في حياة الحزب والأمة، وفضله الذي لا يضاهي في تأسيس الحزب، ونشر الفكر القومي الوحدوي التقدمي في الوطن العربي، من زاوية ضيقة مجتزأة، لأن (عادة) الاستهانة بنضال الآخرين، (المؤسسين) خاصة، واستسهال الاستهتار بتضحياتهم بخفة، مهما بلغت الخلافات معهم لاحقاً، جريمة بحق القيم النضالية، أكثر مما هي بحق هؤلاء الأشخاص بالذات، ونوع من الالحاد بالقيم الأخلاقية، يجعل الأجيال الجديدة تكفر بجدوى النضال أصلاً وبكل شيء، ولا تعود تشعر بأية قيمة عامة، سوى مصالحها الخاصة فقط. فمن يتغير، يتراجع، ينسحب، يتخلى، أو تتوقف قدراته عند سقف معين…الخ، نقول عندما أصبح عليه بموضوعية وصدق، دون أن ننكر تاريخه المشرف بأي حال، ونعمد إلى التفسير البوليسي المدمر، فنسحب وضعه الحالي على ماضيه كله.

بعد هذا التوضيح الضروري، أقول ودون أية نية لتبرير تلك (الرسالة) الفاجعة، والغوص في تفسير ذلك، أن موقف الأستاذ ميشيل، لم يكن نتيجة (جبن) جسدي، أو بفعل (تعذيب وحشي)، “لم يتحمله جسمه الضعيف” كما أشاع أنصاره لاحقاً، لأنه كما أبلغنا في حينه – لم يتعرض لأي تعذيب- على أن الحزب (كمؤسسة) لا يعرف حتى الآن غير ذلك، إلّا إذا كانت ثمة أمور خافية علينا ظلت بين الأستاذ ميشيل و(قيادة الحزب) إذ ذاك؟، ومهما يكن من أمر، فإن الموقف في نظرنا كان بفعل هول المفاجأة النوعية الجديدة، والصدمة المذهلة، التي لم يكن يتوقعها الأستاذ بأي حال، مقارنة بتجاربه النضالية السابقة إبان الحكم الرجعي، وحتى الاستعماري قبل ذلك… !!

– ونذكر بهذه المناسبة- للأمانة والأنصاف بل والاعتزاز- مواقفه الشجاعة المشرفة عندما اعتقلته في أيلول/سبتمبر 1948 (حكومة جميل مردم) إثر منشور حزبي رائع بتوقيعه،.. التي عبرت عنها بيانات قيادة الحزب إذ ذاك ( بتوقيعات: صلاح البيطار ود. رهيب الغانم، وجلال السيد [ نضال البعث- الجزء الأول ص(247 – 256 )، وكذلك دفاع الأستاذ ميشيل أمام محكمة الاستئناف …الخ.

ومما جاء في بيانه (المكتب السياسي لحزب البعث العربي) في21 تشرين الأول 1948.. بعنوان:

* حاكموا الخونة  والقتلة  والمختلسين – قبل أن تحكموا على الأستاذ ميشيل عفلق *

مؤامرة وضيعة تحاول تنفيذها الوزارة القائمة…

ما يلي (….) [ إن الحكومة الرجعية راحت تستعمل أحقر أساليب التشفي والانتقام من شخصية، تعد اليوم من أنضج ما أخرجه العالم العربي في حقل الفكر، ومن أشرف ما قدمته البلاد العربية من رجال في حقل السياسة القومية (…) حيث كان مدير السجن يعمل على وضعه مع المجرمين العاديين، مما أدى إلى إضرابه مرتين عن الطعام طوال أيام، حتى يعترف له بحقوق المعتقل السياسي. والمحاولة الخبيثة الجديدة (لتقييد) الأستاذ ميشيل بالسلاسل (كالسجناء المجرمين) التي قاومها بتمرد وتصميم جديرين بكرامته وكرامة الحزب الذي يمثله، وأعلمهم أنها لن تتم وهو على قيد الحياة، وما دام فيه نفس واحد، وأن ما يطلبونه هو من رابع المستحيلات، ورغم المحاولات المستمرة، واتصالات المسؤول مع مدير السجن وقيادة الدرك والوزير…الخ، الذين “أصروا على تطبيق النظام  عليك، كما قال له رئيس المخفر، فكان جواب الأستاذ ميشيل الصارخ. ٌ لا أريد أن أسمع مثل هذا الكلام، ولا أريد أن أفهم أي وضع وأي عذر. أنا ميشيل عفلق عميد حزب البعث العربي، فليعلم ذلك من لا يزال يجهله، الموت عندي أسهل من شربة ماء دفاعاً عن كرامتي وكرامة حزبي. إن ما تطلبونه لن يكون وأنا حي…الخ. (من المفيد جدا مراجعة كل ذلك مفصلاً، المصدر المذكور لأهميته الكبيرة(23) حيث أفشل الأستاذ تلك المؤامرة وأجبر السلطة على التراجع.

وهكذا فإن الأستاذ فوجئ بالحكم العسكري الجديد، الذي لم يألفه من قبل، ولم يكن معروفاً سابقاً في سورية، حيث حصل نوع من الخلط العاطفي الانفعالي بين الانقلاب العسكري والثورة في البداية، وإسقاط الرغبات الذاتية الطبقية على الواقع النقيض، بالإضافة إلى رد الفعل لقمع النظام الإقطاعي- البرجوازي الفاسد، والوضع النفسي للجماهير المعادية للنظام القائم، في تمرير ذلك الانقلاب، مما ولّد نوعاً من الصدمة المذهلة- كما ذكرنا – شلت تفكير القادة، وأصابت وعيهم بنوع من الغموض والضبابية والانتكاس.

… ومع تسليمنا بالمثل القائل: ” أن لكل جواد كبوة.. ولكل سيف نبوة”، ورفضنا النظرات الأحادية والمجتزأة لحياة البشر ونضالهم، وتأكيد اعترافنا بالأعمال الجليلة التي قام به الأستاذ (عفلق) في سبيل الحزب والأمة، وكونه لم يفعل ذلك مع حسني الزعيم بدافع الخوف والجبن بل لخطأ في التقدير. إلّا أن تكرار تلك (الكبوات) لاحقاً، وعدم الاستفادة من التجارب والأخطاء لتحصين الحزب، يشير إلى أنه كان من الأفضل لتلك القيادة التاريخية، وعلى رأسها الأستاذ ميشيل بالذات، أن تتخلى عن قيادة الحزب، ولو لفترة زمنية معينة، للتأمل والمراجعة الضرورية، بعد تعاملها الخاطئ والمتسرع مع انقلاب حسني الزعيم، كما وعد الأستاذ ميشيل في (رسالته إياها) بقوله:

“… قد اخترت أن انسحب نهائياً من كل عمل سياسي (…) وأعتقد أن أسلوبي لم يعد يصلح لعهد جديد، وأن بلادي لن تجد من عملي السياسي أي نفع بعد اليوم…” .

        وقد اعترف الأستاذ ميشيل في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي /عام 1963، بأنه غير مؤهل (للزعامة) – كما سنرى في حينه. ولكن هذا لا ينتقص من قدره. والمهم أن يعطي كل مناضل بقدر ما يستطيع، وقد فعل، وأن يعمل لتكامل جهود الرفاق، ويشجع التطور داخل الحزب، وهنا أحد مصادر الاختلاف..

* لقد أخذ الحزب “دور الناصح الأمين” و”أيّد مع تحفظات”، وقدم “المذكرات” التي تحمل مطالب الشعب الصحيحة، وأكد ذلك في “المقابلات.. مع الزعيم”، ولكنه خُدِع عن حقيقة الانقلاب والصراع الامبريالي في المنطقة، وتكرر ذلك في الانقلابات اللاحقة، مع الأسف الشديد. وعندما يراجع المناضل كل ذلك، بوعيه الحالي، يشعر بمدى قصور وعي تلك القيادة، إذ ذاك، وانعدام تجربتها، بل (وسذاجتها) أحياناً، وأنها لم تكن تعلم أن تلك المطالب الشعبية، المستوعبة فعلاً لمصالح الوطن والشعب، لا يمكن أن تتحقق على أيدي “حسني الزعيم” وزمرته العميلة.

        أي طيبة وصدق وإخلاص، ولكن مراهنة خاطئة، وتناقض بين الوعي بتلك المطالب الحيوية اللازمة وبين الوهم بأن الانقلاب مؤهل لتنفيذها. مع أنه جاء ليقبرها، ويقطع الطريق على إمكانية تحقيقها، عن طريق النضال الشعبي الذي كان في قمة الاحتدام.

         وبعيداً عن أي اتهام أو تشكيك- كما أكدنا ونؤكد باستمرار- ومع كل التقدير والاعتراف بفضل تلك (القيادة التاريخية) النوعي العظيم، وتميز أشخاصها بالنزاهة والصدق والإخلاص وبساطة العيش وطهارة اليد، إلا أن الإخلاص للحزب والأمة يدفعنا إلى نقد مواقفها تلك، ومواقف الحزب ككل الذي نحن منه، رغم أننا لم نكن في مراكز القرار، فنقول أن تلك المواقف الخاطئة تعبر فعلاً، عن فشل النهج (المثالي) السابق، القاصر عن تحليل وفهم الأحداث،  ومواجهة متطلبات وتعقيدات الواقع، والصراع الضاري مع القوى المعادية، وعدم تحضير النفس والحزب لذلك، وغياب النهج العلمي، وانعدام التجربة والخبرة في هذا المجال، حيث كان يجب تجاوز مرحلة التبشير (الصوفي)، وتسليح الحزب بالنظرية العلمية الثورية، كنهج لا بد منه لتحليل وفهم الواقع، ومستجدات الحياة، ووضع إستراتيجية وتكتيكات عملية التغيير، بما يجنب الحزب وقيادته العديد من المطبات والأخطاء السياسية في التعاطي مع انقلاب “حسني الزعيم” وغيره، من تجارب الحزب في السلطة في سوريا والعراق …. إلخ.

– ولعلّ من أسباب الأزمة المزمنة، إصرار بعض القادة التاريخيين على إبقاء الحزب (أسير) عقليتهم تلك، بما يعني خنقه، إذ لم يبق صورة طبق الأصل عن (الآباء) المؤسسين، وبالتالي تخلفهم عن مواكبة التطور والمعطيات المستجدة المتلاحقة في حياة الحزب والوطن والعالم بأسره. إذ تقطعت (أنفاسهم) بعد ذلك، ولم يعودوا بمستوى (المارد) الثوري، الذي كان لهم فضل تحريره وإطلاقه من (زجاجة) القرون، بل كانوا يحاولون إعادته إليها لاحقاً مع الأسف الشديد.

وخلاصة القول، كان من الأفضل للأستاذ ميشيل وللحزب والأمة، أن يتخلى عن قيادة الحزب المباشرة، ويتفرغ (كأب روحي) للمسائل الفكرية والثقافية، وتطوير نظرية الحزب باتجاه أكثر علمية وواقعية ثورية ووضوحاً، فيخدم بذلك الحزب والأمة، كأبرز مفكر قومي تقدمي في الوطن العربي، في  مراحل الدعوة والتبشير.

هوامش:

  • بداية نثبت فيما يلي تتمة آخر هامش في الحلقة العاشرة (الهامش رقم 9):

“وكم أتمنى أن تتاح لي الظروف، في المستقبل، لاستعراض تلك المرحلة التبشيرية الرائعة بشيء من التفصيل.

بدأت هذه المرحلة –على الخصوص- بشكلها القومي التقدمي النوعي منذ مجيء الدكتور وهيب الغانم وبعض اللوائيين  الشباب إلى اللاذقية في عام 1943، حيث كان له الفضل الأول في زرع بذور البعث في المحافظة (التي كانت تضم محافظتي اللاذقية وطرطوس الحاليتين). بحيث أصبح يسيطر في الأرياف –خاصة- ويضم معظم المتعلمين تقريباً، مع ضم مجموعة من أفضل شباب اللاذقية ومدن المحافظة الأخرى، الذين كان لهم دور بارز في مكافحة أمراض الطائفية في المنطقة، ذلك أنه كان الحزب الوحيد الذي يلبي الجدل القومي الطبقي، أي مشاعر الانتماء القومي العربي الأصيل لدينا، وتطلعنا الثوري للخلاص من الاستغلال الطبقي (المركب) الذي كان سائداً بقوة في المحافظة…

وقد كان الرفاق (اللوائيون) الذين اضطروا للهجرة من لواء الإسكندرون السليب، (بفعل القوات الفرنسية الاستعمارية وتواطؤ الرجعية السورية مع تركيا) متحررين من عقدة الاضطهاد (الطائفي) –واضطهاد المدينة للريف- لأن العرب كانوا يشكلون أكثرية السكان في المدن والأرياف. وكان الصراع المطروح قومياً بين العرب والأتراك. حيث كان يلجأ المسيحيون العرب إلى مساجد المسلمين العرب، كما يلجأ هؤلاء إلى كنائس المسيحيين العرب. وهكذا، كانت أول تجربة عملية ناجحة لتجسيد وحدة الانتماء القومي، الذي يصهر الجميع، ويسمو فوق جميع أمراض التخلف المذهبية والطائفية والعشائرية…إلخ.

• وانطلاقاً من تفطن الدكتور وهيب، وفهمه العميق لنفسية الشعب، والخوف (التاريخي) المزمن من السلطة بين سكان الأرياف السورية عامة، وعمليات الإذلال والاضطهاد (المركب) في محافظة اللاذقية بالذات طيلة قرون من الاستعمار التركي، ثم الفرنسي، فالحكم الإقطاعي- البرجوازي (الطائفي) بعد الاستقلال، كان يعمل للقضاء على تلك (العقدة)، ببث روح الاعتزاز القومي، وإيقاظ قيم الشجاعة والتحدي والإقدام، ومحاربة وتحطيم حاجز الخوف، ويصر على أن يبادر الحزب إلى الرد الفوري على أي عدوان من أية جهة كانت. وكنا نفعل ذلك بجرأة لا تعرف التردد، وبمشاركته الشخصية المباشرة عند اللزوم. من ذلك – مثلاً- الرد على عملية (قطع الطريق) والاعتداء علينا إبان زيارة القوتلي، في اليوم التالي، وفي ساحة (البازار) الشهيرة في اللاذقية – أمام مدرسة تجهيز البنين، بضرب (قادة المعتدين) رغم أنهم كانوا بحراسة /رجل بوليس/، وملاحقتهم بمظاهرة صاخبة، حتى منزلهم بالذات، الأمر الذي أنعش الفلاحين الذين كانوا في (البازار) في ذلك  اليوم.

-وعندما – اُعْتقلتُ- لأول مرة- إثر ذلك، مع عدد من الرفاق الطلاب، بأمر قائد الدرك الشركسي “محمد علي عزمت” في مخفر الشيخ ضاهر، وبدأ رئيس المخفر، وهو ملازم أول من حماه، يحقق معنا الواحد تلو الآخر، ويستمع إلى مداخلاتنا القومية الرائعة، مقابل الاتصالات الهاتفية المتواصلة، التي كانت تأتيه من كبار المسؤولين والزعماء الرجعيين في المحافظة للتشديد علينا، وشتمنا بلغة طائفية حقيرة، لم يستطع الاستمرار في عمله، إذ تأثر كثيراً بالتناقض الصارخ بين موقفنا القومي ومنطلقاتنا الوطنية المخلصة، وبين موقف الطرف الآخر الرجعي العشائري المتسلط، فقام عن الطاولة –كما أذكر- وقدم استقالته تعاطفاً معنا، ورفض الإساءة إلينا بأي حال –فكان رجلاً وطنياً فاضلاَ لا ينسى.

وأضيف في هذا المجال، وفي السياق ذاته، اندفاع الرفيق محمد غريب (اللوائي) الذي كان محامياً، لاقتحام باب (النظارة) وإصراره على دخولها، ليكون معنا في الاعتقال للتضامن والتشجيع!!! وقد تجمع جمهور من أنصار الحزب في ساحة الشيخ ضاهر حتى إطلاق سراحنا ليلاً.

وأقول –للأمانة التاريخية- أن ذلك النهج كان ذكياً جداً، وفعالاً في استئصال مشاعر الإذلال والتخويف من نفوس السكان، وقد كان لرفاقنا الأبطال من أبناء المدينة، وفي مقدمتهم الرفيق محمد سعيد وعلي عنتر وغيرهما، دور هام جداً في استكماله ونجاحه.

• ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أننا قمنا، بتوجيه من (الحزب)، بتأسيس أول “جمعية خيرية” في المنطقة، وذلك عام 1945- أي قبل ولادة الحزب الرسمية عام 1947، برئاسة الوالد الشيخ أحمد ماخوس -رحمه الله- ومجموعة من الإخوان المخلصين، الذين بدأنا العمل الحقيقي معهم وفي ظلهم، حيث رفضت السلطة، قبولي في طلب الترخيص، لأني كنت ابن 17 عاماً، أي دون السن القانونية، وذلك انطلاقاً من قريتي: ماخوس ومشقيتا (التوأمين-المتلاصقين تقريباً) اللتين كانتا قلعة الحزب الأساسية (الصافية) في المنطقة، ثم انتشرت إلى معظم قرى الساحل، أو ما كان يعرف إدارياً (بقضاء اللاذقية). وكانت (عملياً) أول (واجهة) للعمل الحزبي في المنطقة. وقد نص نظامها التأسيسي على أنها: “جمعية خيرية عربية محضة” “أهدافها مكافحة: الفقر والجهل والمرض…” …”ولا تقبل بين أعضائها من يحمل إحدى النزعات الطائفية أو المذهبية أو الإقليمية ..إلخ. الأمر الذي أثار السلطة الرجعية واتباعها من القوى الإقطاعية الطائفية والعشائرية في المحافظة، الذين كانوا يضغطون عبثاً كي تأخذ اسماً (طائفياً)، -خلافاً لقانون حماية الاستقلال- ويعملون على اضطهادنا و(تكفيرنا) لأننا نناضل من أجل العروبة كانتماء قومي ونتمسك بمبدأ تحقيق الوحدة الوطنية الراسخة في القطر، ونحارب أمراض التخلف؛ الطائفية والعشائرية والمذهبية التعصبية، التي كان يغذيها الاستعمار الفرنسي، وواصلت تغذيتها السلطة الإقطاعية-البرجوازية الرجعية بعد الاستقلال.

وقد بلغ الأمر (بمدير الناحية العشائري) في ذلك الوقت استخدام رجال الدرك، والطواف على القرى لتهديد الفلاحين، والاعتداء عليهم وجلدهم، لمنعهم من الانتساب للجمعية الخيرية وتأييدها، الأمر الذي جعلنا نتصدى لذلك بجرأة مدهشة، وبرد كيدهم إلى نحورهم.

وقد بنينا بأيدينا (أول مدرسة متوسطة) في المنطقة في ساحة قرية مشقيتا الواسعة التي تبرعت بها القرية، وذلك من تبرعات المواطنين، ثم توسعت إلى ثانوية شكلت (ينبوعاً) لتخريج العديد من مناضلي وكوادر الحزب. وكانت أول مدرسة  مختلطة، ربما في سوريا كلها –حسب علمنا- في ذلك الوقت. وقد بادر الوالد إلى تشجيع تعليم البنات، بإرسال أختي إليها، وكذلك أختي رفيقنا المناضل الكبير كامل حسين اللتين كانتا تأتيان سيراً على الأقدام يومياً، من قرية الصفصاف –على بعد أكثر من 05 كيلومتر، وكذلك غيرهن من القرى المجاورة.

ويجب أن أسجل هنا –بمنتهى الموضوعية والأمانة والصدق- دور الوالد الأساسي والحاسم، في قيام واستمرارية تلك الجمعية، وانتشارها، وبناء المدرسة بالذات، حيث (أفتى) ببيع الأشجار اليابسة الملقاة منذ زمن بعيد في أرض الغابة المجاورة –حول أحد (المزارات) في قرية ماخوس، والتي لم يكن احد يجرؤ على لمسها، (وكان المبلغ نقطة الانطلاق في بناء المدرسة)، ثم بادر لجمع (الزكاة) من الشعب، وتشجيع السكان على ذلك. واضعاً كل رصيده كمرجع روحي شعبي تقدمي مستنير لإنجاح “الجمعية” ورعاية نشاطها. و(حمايتنا) من بعض الرجعيين المعادين في المنطقة. حيث قضى حياته بأسرها في خدمة الشعب، وفئاته الكادحة على الخصوص، ومحاربة الأمراض الاجتماعية المختلفة، كالطائفية والعشائرية والإقطاعية، والدعوة إلى العلم والوحدة الوطنية والتقدم. ورفض بشكل قاطع أي منصب (ديني رسمي: كمفتي المنطقة مثلاً) أو حكومي، أو حتى (نيابي) في جميع العهود. وآمل أن أتعرض بشكل مفصل لكل ذلك في المستقبل –كعضو الهيئة التأسيسية .

*إضافة هامة: من الذين شكلوا هيكل الجمعية منذ البداية: محمد بدر (كأمين سر) وهو ابن عمتي، وكان حزبياً منذ مرحلة التبشير، وهو من قرية الشامية +محمد أبو يعلى “مختار قرية مشقيتا” كعضو الهيئة التأسيسية، وكذلك عدد من وجوه قرية وادي الرميم والترية وآل حيدر من عين البيضا وغيرهم من وجوه المنطقة، حيث انضم بعد ذلك الأخ العزيز الشيخ كامل حاتم، وعمت فروع الجمعية معظم قرى (قضاء اللاذقية) بأسره. حيث شكلت لجان ثلاثية لكل قرية (رئيس + نائب رئيس+ مسؤول مالية) مع اجتماعات أسبوعية، وكانت تعقد معظمها في دارنا حتى وفاة الوالد إلى رحمة الله.

هوامش الحلقة الحادية عشرة:

  1. المراجع: “الدراسات الأولية حول نفد تجربة الحزب” +” نضال البعث خاصة: الأجزاء الأول والثاني والثالث…” + حزب البعث العربي الاشتراكي” الجزء الأول، الطبعة الأولى- السيد مصطفى دندشلي.
  2. كان “حسني الزعيم” الضابط الشركسي، معروفا في سورية، بأنه  من مرتزقة الجيش الفرنسي إبان الاحتلال، وشاذ خلقيا.. ومغامر.. الخ…وبقي في الجيش السوري الذي  تم  استلامه بعد الاستقلال… ووصل إلى مرتبة (زعيم).
  3. كانت جامعة دمشق، مركز انطلاق الحركة الشعبية. وكنا في الصف التحضيري للطب. وأذكر أننا لم نداوم سوى حوالي 40 يوماً من أول العام الدراسي حتى انقلاب “حسني الزعيم” في 30 آذار 1949، فالإضرابات والمظاهرات كانت مستمرة ضد حكومة جميل مردم، وكانت هناك اصطدامات دامية مع الشرطة.

حيث كان الطلاب، الملتحمين مع جماهير الشعب، يحملون “النعوش” المملوءة بالحجارة، وينطلقون بها حتى ” ساحة المرجة”، أمام (سراي) الحكومة ووزارة الداخلية، وهناك تفتح فجأة، وتستخدم الحجارة ضد الشرطة، وكان الشعب يتعاطف معنا، ويشاركنا في كل ذلك، كما شاهدته وعشته بنفسي في دمشق، إذ رأيت حلاقاً بسيطاً، كنت أعرفه، وقد حمل الحجارة، بعد سقوط أحد الشهداء، وانطلق راكضاً باتجاه حاجز الأمن أمام مقر (البرلمان) حتى وصله، وانهال بها على الشرطة رغم الرصاص، كما كان يفعل العديد من المواطنين العاديين…

ولن أنسى ذلك قط، حيث ازداد يقيني وقتها، بأن الشعب مستعد للنهوض والتضحية والعطاء، إذا توفرت له الطليعة الثورية المطلوبة، وفي ذلك الوقت، كانت قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة (رحمه الله) تتردد في  كل انحاء القطر، ومنها:

          أمتي كم صنم حطمته           لم يكن يحمل طهر الصنم

          إن ارحام البغايا لم تلد          مجرماً مثل  جميل المردم

وقد جاء انقلاب “حسني الزعيم” لإجهاض تلك الانتفاضة الشعبية وضرب الحزب، وتنفيذ مطالب الاستعمار والصهيونية، خلال أشهر قليلة، بعد أن عجزت الحكومات الرجعية السابقة عن ذلك.

  •  علما أنه كان قد حدث انقلابان عسكريان في العراق قبل ذلك (عامي 1936 و 1940).
  • كانت كلمة: الانقلاب…. والانقلابية- كما رأينا في (دستور الحزب) تعني الثورة والثورية  …الأمر الذي ترك المجال لبعض الالتباسات اللاحقة، والخلط بين الانقلابات العسكرية، والثورات الشعبية الحقيقية وكان يجب وضع (الثورية) مكانها في (الدستور)..
  • من خطاب العميد ميشيل عفلق في مظاهرة التأييد للانقلاب في 7 نسيان1949- الذي يمكن مراجعته كاملاً في نضال البعث- الجزء الأول- الطبعة الثالثة- كانون الأول 1972- ص 272-273.
  • حوكم هو ورئيس وزرائه محسن البرازي، ونفذ فيهما حكم الإعدام فورا في سجن المزة العسكري، قرب دمشق وذلك قبل أن تصدر من الإذاعة البلاغات الأولى للانقلاب الجديد….” من حزب البعث العربي الاشتراكي للسيد مصطفى دندشلي-  ص (133).
  • المصدر ذاته ص (125-   126).
  • نفس المصدر: نضال البعث- الجزء الأول- ص272، علامات التشديد والتعجب من عندنا.
  • الرسالة منشورة في العديد من وثائق الحزب السياسي خاصة بعد 23 شباط 1966  ولن نعيد نشرها هنا، تقديرا للأستاذ ميشيل… واحترما لذكراه  بعد   رحيله إلى رحمة الله…
  • لا شك أن الجيش العربي السوري- بكتلته الأساسية الغالبة من جنود، وضباط صف، وضباط معروف بوطنيته وقوميته الراسخة… وتبنيه  لقضايا الشعب… هذا صحيح… لكن (المجموعة) التي قامت بالانقلاب- من كبار الضباط- كانت في معظمها مشبوهة… وقد ساهم بعضها في الانقلابات اللاحقة…  أيضا… وكانوا أسوأ من حسني الزعيم…
  • كان حسني الزعيم معروفاً، كما ذكرنا، ومع ذلك يقال هنا أن هذه الطبيعة لم تكن معروفة. ويعلق عليه الأستاذ صلاح الآمال لو أحيط بجماعة الخير، متناولاً الانقلاب بسطحية عجيبة، دون النفاذ إلى حقيقة وطبيعة وتحليل بواعثه وخلفياته وأهدافه! ثم نسي الأستاذ صلاح أن الاستعمار يستغني عن عملائه بعد استهلاكهم، وتحولهم إلى عناصر مستنفذة ومؤذية  لمصالحه. وأن تلك الانقلابات  كانت تتم في إطار الصراع الامبريالي على وطننا العربي، لإعادة اقتسام مناطق النفوذ بين الامبريالية (قرار يكبته ” الاستعمار الجديد” والاستعمار الفرنسي والإنجليزي القديم، ومن أجل تصفية القضية الفلسطينية..”.
  • 13-  – سامحك الله يا أستاذ صلاح وغفر لك.. هل نسيت انه تلك الأهداف التي (حققها الانقلاب، هي  أهداف الإمبريالية والصهيونية =  وقد ذكرها الحزب في حينه، كما نقلناها في هذا الفصل= وأن هؤلاء (العسكريين) أزالوا (صخرة) النظام الإقطاعي- البرجوازي (البرلماني ) السابق عن صدر الشعب… ليضعوا مكانها (جبل) الديكتاتورية العسكرية العميلة.. وهو ما ينطبق عليه قول الشاعر العربي:

“إذا استشفيت من داء بداء    فأقتل ما أعلك ما شفاك”

14- هل يحتفل القائد الحزبي بذكرى جلاد الحزب والشعب، ويعتبر ذلك “يوماً تاريخياً عظيماً “، فتح الباب أمام التفكيرالانقلابي عمداً!!! ويعتب على أولئك (السياسيين الرسميين) الذي منعوه من ذلك، فكانوا أكثر وعياً منه- مع الأسف الشديد.

تصوروا أيها الرفاق هذه العقلية التي قادت الحزب، وكيف تدعو للاحتفال بذكرى الانقلاب الذي ضرب الحزب، وسجن مناضليه، وقادته، ومنهم الأستاذ صلاح بالذات.. وقيل لنا أنه ضُرِبَ وعُذِّبَ وأُهين أمام رفيقه الأستاذ ميشيل إذ ذاك- مما دفعه  لكتابة تلك (الرسالة) !! بالإضافة إلى خيانة الزعيم لقضية الشعب لمصلحة الامبريالية والصهيونية… فهل تصلح لقيادة حزب ثوري (كالبعث)  الذي يحمل رسالة الأمة؟ !

15- نضال البعث -الجزء الثاني- ص 54 / جريدة “البعث” العدد 409.

16- نضال البعث- الجزء الثاني- ص 107.

17- [نضال البعث – الجزء الأول- ص 274-277].

18- هي اللجنة التنفيذية- التي انتخبت، بالتزكية / في المؤتمر التأسيسي الأول للحزب/ 7 نيسان 1947 / على الشكل التالي: الأستاذ ميشيل عفلق”عميدا” + الأستاذ صلاح البيطار، وجلال السيد، والدكتور وهيب الغانم أعضاء، ثم اجتمعت اللجنة التنفيذية وانتخبت صلاح البيطار أمينا عاما  للحزب/ نضال البعث=  الجزء الرابع- والجزء الأول / ص  (157).

19- “نضال البعث” و”نقد تجربة الحزب الجزء الأول” ص 98).

20- [دراسة نقد التجربة – الجزء الأول – ص (99-101).

21- “نقد التجربة -1- ص 102”

 22 –  الرفيق الأستاذ عبد البرعيون السود، من مدينة حمص، من المناضلين المؤسسين الأوائل، وأكثرهم وعياً، عاش ومات صادقاً طاهراً عفيفاً، حياةً متقشفةً بسيطةً جداً، ولم يحاول الاقتراب من السلطة قط. بينما قفز (غيره) من جيله، ومن هم أقل منه، بما لا يقاس، في النضال والتضحية والجدارة، إلى كل ما تمكنوا من الوصول إليه من مناصب ومغانم في جميع العهود – على تناقضها- وحتى الآن !!! دون التزام بأي شيء سوى مصالحهم الذاتية فقط، متاجرين (بورقة قدمهم الحزبي الشكلي) في الحقيقة بانتهازية رخيصة ومقرفة، طالما احتقرها المرحوم عبد البر طيلة حياته.

ولم يأخذ الرفيق عبد البر حقه الواجب، في أية مرحلة من حياة الحزب (رغم أنه انتخب عضواً في لجنته التنفيذية في دورة “مجلس الحزب” نيسان 1950، أي إبان المعارك النضالية ضد نظام الشيشكلي الديكتاتوري، شأنه شأن القلة النادرة من أمثاله. وقد تعرفنا عليه عندما كنا في الجامعة، عن طريق الرفيق المناضل المؤسس الطيب (اللوائي) الفيلسوف الرائع، الرفيق صدقي إسماعيل رحمه الله، الذي كان يعتبر عبد البر مرجعية الحزب، وبوصلته والمحك الذي يكشف به الصح من الزيف، وأنه من أعمق وأنبل الرفاق.

واني- شخصيا قابلته – بعد 23 شباط – مرة واحدة في حمص- ومازلت أشعر بالألم لأننا لم نبذل ما كان يجب علينا من جهود لمواصلة الاتصال والحوار معه، بعد ذلك بكل الاهتمام الخاص الذي يستحقه. والاستفادة من خبرته التاريخية الرصينة، وإمكاناته المتميزة في اغناء حياة الحزب.

23- كانت معظم كوادر الحزب قد بدأت تدرك ضرورة تجاوز مرحلة التبشير (الصوفي) الرومانسي؛ لأن المرحلة الجديدة أصبحت تستدعي ذلك. ولذلك طالب الحزب بالدكتور وهيب الغانم أميناً عاماً للحزب، والتفينا حوله، في مظاهرة حاشدة أمام مقر الحزب في (السبكة) بدمشق، نهتف باسمه، ونسعى لحمله على ان يتولى “أمانة الحزب” (حيث كان صلاح البيطار وجلال السيد غير مقبولين فعلاً –كما ذكر الرفيق عبد البر عيون السود في حديثه للسيد مصطفى دندشلي (ص 42).

-وكان، الدكتور وهيب الغانم، يمثل أملاً لإنقاذ الحزب بموافقة الجميع تقريباً، ولكنه ألقى خطاباً –توفيقياً- ورفض قبول المسؤولية، وساهم في تكريس الأستاذ عفلق مجدداً، في دورة “مجلس الحزب” المذكورة! وهكذا استمر الأستاذ عفلق على رأس الحزب حتى المؤتمر القومي الثامن /1965/ حيث جيء بالدكتور منيف الرزاز لمرحلة بسيطة. ثم عاد إليها الأستاذ عفلق /رحمه الله/.

وأذكر جيداً أننا أُصِبنا بخيبة أمل من الموقف السلبي للدكتور وهيب، وخذلانه لنا، ولما سألته (شخصياً)، في وقت لاحق، عن ذلك كان جوابه: أنه لا يريد ترك عيادته الطبية في اللاذقية، ويتفرغ لأمانة الحزب في دمشق..”؟!

-ومهما تكن دواعي ذلك الرفض، بأنها تعود -في الجوهر- وبدون الدخول في تفاصيلها، إلى رفضه (الاحتراف الثوري)، وبالطبع هو أدرى بظروفه، وطاقاته، واستعداده، إذ قدر عدم إمكانية قيامه بتلك المهمة التاريخية الثقيلة والإنقاذية. ولا نذكر ذلك هنا، في معرض لومه، فنحن الذين عايشناه عن قرب في اللاذقية، وقبل إعلان ولادة الحزب رسمياً، كنا نعتبره يمثل، ميدانياً، فكر الأرثوذي (الذي اعتزل العمل الحزبي  المنظم)، وكان بالنسبة لنا بمثابة “لينين” الحزب.

وأظن، الآن، على ضوء تحليلي للظروف والأوضاع والتطورات اللاحقة، أنه ربما كان يخاف على الحزب (من الطائفية) التي كان للأمانة التاريخية يرفضها ويحاربها باستمرار، ويتقزز من /بوادر استخدامها من قبل البعض إذ ذاك، لستر عجزهم وانتهازيتهم ونفسياتهم المريضة/.

كما كان حريصاً على استقلاله المالي، ولا يريد العيش على حساب الحزب. بعد كل المعاناة الشاقة، وحياة الكفاف التي عاشها هو ومجموعة الشباب اللوائيين الذين كان يساعدهم، بعد فتح عيادته في اللاذقية، علماً أنه كان متقشفاً وبسيطاً جداً في حياته الخاصة، ولم يهتم أبداً بجمع الثروة، حتى سمي (طبيب الفقراء) في المنطقة.

كما بدأت أدرك تدريجياً، أنه رغم ذكائه وحيويته المتوقدة المتميزة، وشجاعته، وقدرته الفذة، على مخاطبة الجماهير، وإقناع الآخرين بأفكار الحزب، وكذلك ثقافته، وكونه كان الأكثر تجسيداً في الحزب لجدلية: الفكر والممارسة النضالية الميدانية، إلاّ أنه لم يكن –كما كنا نتصوره في مرحلة المراهقة والشباب- (عندما كنا نسقط رغباتنا الذاتية على القادة)، ونتطلع دوماً إلى تجسيد المثل الأعلى المنشود بينهم، ولم يكن القائد الثوري المنشود. إذ لا يمكن (عبادة ربين في آن واحد) أي الجمع بين الحياة العادية الطبيعية كبقية المواطنين (وخاصة ممارسة الطب بالذات)، وبين الزعامة الثورية التاريخية، التي تحتاج لتفرغ تام واحتراف ثوري كامل. وهذا لا ينقص من قدره بشيء، والخدمات الجليلة التي قدمها للحزب، وفضله الكبير كأبرز المساهمين في تأسيسه وترسيخه، ونشره على اوسع نطاق ممكن، وعلى جيلنا –كمناضلين.

عن ابراهيم معروف

شاهد أيضاً

مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس (الحلقة التاسعة)

ملاحظات تحليلية حول بعض ما جاء في دستور الحزب ومؤتمره التأسيسي *- نظرا لوضوح معظم …