الحزب والانقلابات العسكرية(2)
(في المرحلة السابقة للوحدة)
انقلاب اللواء سامي الحناوي 14- آب-1949
“جاء الانقلاب الثاني بقيادة اللواء “سامي الحناوي” وقضى على “حسني الزعيم” – كما ذكرنا- (لصالح النفوذ الإنجليزي، والمحور العراقي- الأردني التابع له)، وحزب الشعب المرتبط به في القطر السوري)، “فأيده حزب البعث كذلك، وشارك في حكومته الأولى بشخص عميده الأستاذ “ميشيل عفلق “وزيراً للتربية الوطنية)”، وشارك الأستاذ “أكرم الحوراني” (زعيم حزب الشباب) “وزيراً للزراعة”، وطرح “حزب الشعب” الذي جاء كبديل “للحزب الوطني” الوحدة مع العراق، الذي كان يحكمه النظام الملكي الإقطاعي، في ظل القواعد العسكرية الإنجليزية، وبزعامة “نوري السعيد” والأمير “عبد الإله” الوصي على العرش، مستغلاً مشاعر الجماهير السورية الوحدوية لضرب استقلال القطر. وحركته الشعبية المتنامية ضد الرجعية والأحلاف الإمبريالية، واحتواء القطر وإعادته إلى مناطق النفوذ الامبريالي تحت ستار الوحدة بالاتفاق مع النظام العراقي والاستعمار الإنجليزي.
ومن الجدير بالذكر أن بعض قادة الحزب حاولوا جرّه إلى الخطأ في هذه المسألة أيضاً، وعلى رأسهم “جلال السيد” (عضو اللجنة التنفيذية)، ولكن أكثرية الحزب كانت واعية، وأحبطت ذلك الاتجاه. “]”واشترط الحزب أن يضمن الاتحاد بقاء النظام الجمهوري في سورية، باتجاهه التقدمي الاشتراكي، وأنه لكي يكون في مصلحة الشعب يجب أن تنهض بفكرته الهيئات الشعبية النضالية…”].(1)و(2)
“وهكذا أعاد حزب الشعب سيرة الحزب الوطني القديمة (وهما وجها عملة التحالف الإقطاعي- البرجوازي الواحدة) بشكل جديد، من حيث القضايا الديمقراطية العامة، وتزوير الانتخابات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والمطلبية الحياتية للجماهير، واضطهاد العمال والفلاحين، مواصلاً حكم البلاد بعقلية المزرعة الإقطاعية ومحاولا دفعها في سياسة المحاور العربية الامبريالية باتجاه المحور العراقي – الإنجليزي”.
ونتيجة لتزوير الانتخابات لم ينجح من مرشحي الحزب سوى الأستاذ “جلال السيد” (عن منطقة دير الزور) ومعه نائبان صديقان عن منطقة منطقة دير الزور وبوكمال انضما للحزب لاحقاً، ولم ينجح الأستاذ ميشيل عفلق في (الدورة الأولى)، فرفض التقدم للدورة الثانية، واستقال من الوزارة، احتجاجاً على التزوير وغيره. ونظراً لمحاولة حزب الشعب قلب “الهيأة التأسيسية” إلى “مجلس نيابي”، وطرح مشروع الدستور الجديد من وراء ظهر الحزب والحكومة، طلب الحزب من نائبه جلال السيد الاستقالة من المجلس التأسيسي احتجاجاً، كما استقال الأستاذ أكرم الحوراني من الوزارة للسبب ذاته.
وخاض “البعث” والقوى التقدمية الأخرى، وفي مقدمتها تيار الأستاذ أكرم داخل البرلمان وخارجه، وبعض ضباط الجيش التقدميين نضالاً ضارياً من أجل وضع دستور علماني تقدمي. دار خاصة حول (دين الدولة- الصفة القومية السورية- وإصلاح البلاد اجتماعياً واقتصادياً(3).
ونتيجة لذلك اكتفى بأن ينص الدستور على أن يكون رئيس الدولة مسلماً، كما نص الدستور، لأول مرة في الوطن العربي، على أن سورية جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، وأن على النواب أن يعملوا من أجل تحقيق الوحدة العربية، وأخيراً لم يضمن الدستور ممارسة الحريات الفردية فقط، بل ضمن أيضا الحق في العدالة الاجتماعية والعمل والتعليم (…). (وبعد تعديل القانون الانتخابي، منحت المرأة حق التصويت لأول مرة في تاريخ سورية، بشرط أن تكون حاملة للشهادة الابتدائية على الأقل..).(4)
وقد أمكن تحقيق تلك المكاسب القومية – الديمقراطية بفعل المظاهرات الصاخبة التي كانت تحتشد أمام مبنى البرلمان، وتضافرها مع الضغوط الأخرى المذكورة أعلاه، والمعارك الشرسة التي كان يخوضها حزب البعث وحلفاؤه التقدميين في جامعة دمشق، خاصة، ومدارس القطر عامة، مع الأخوان المسلمين وحلفائهم الرجعيين الذين كانوا يهاجموننا بالسكاكين والجنازير في ذلك الوقت.
وعلى ضوء كل ذلك، وتوضح حقيقة “الانقلاب المشبوهة”، انتقل الحزب من تأييد الانقلاب والنظام المنبثق عنه إلى معارضته وقيادة النضال ضده، وقدّم في سبيل ذلك التضحيات الكبيرة…”، حيث تجدد الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها(5)!!!
* * * * *
انقلاب العقيد أديب الشيشكلي
قام “الشيشكلي” بانقلابه (الأول) في 19 كانون الأول / ديسمبر 1949، دون أن يستلم الحكم كلية، بل (.. اكتفى بمنصب مساعد رئيس أركان الجيش، حيث تم إيقاف اللواء سامي الحناوي، ثم نفيه بعد فترة من سورية، فلقي مصرعه في بيروت) على يد “حرشو البرازي” (انتقاماً لقريبه محسن البرازي).(6)
[وبدأ يمارس ضغطه على الحكم، من موقعه في قيادة الجيش بحجة الحيلولة دون تحقيق مشاريع الفئة الحاكمة المناقضة لقضية الشعب…] وأولها – حسب بيانه”: (منع إعلان الاتحاد السياسي بين سوريا والعراق الذي يحطم استقلال سوريا ونظامها الجمهوري…).(7)
[“وهكذا لم يتسلم “الشيشكلي” السلطة دفعة واحدة، حتى انقلابه (الثاني) في كانون الأول / ديسمبر 1951، وإلغائه الحياة الدستورية، وتسلمه السلطة النهائية. وكما كان الشعب في ثورة دائمة على الفئة الحاكمة، فقد واتت الظروف “الشيشكلي” للقيام بانقلابه النهائي هذا”].
… [ إلا أن “الشيشكلي” ما كاد أن يتسلم السلطة الفعلية حتى شرع يطعن ما حققه نضال البعث وجماهيره من مكتسبات: كتأميم “شركة الريجي” ، والحريات العامة، وقوانين العمل…الخ.
وقد أصدر الحزب عدداً من البيانات إثر تسلم “الشيشكلي” زمام الأمور من وراء ستار الجيش، وقبل تسلم السلطة نهائياً، أوضح فيها شعاراته، ووقف منه موقف المحذر الموضح…”].(8) كما أصدر الحزب بياناً في جريدته، يحدد موقفه من الانقلاب، ويشدد على ضرورة تحرير الشعب العربي وتحقيق الاشتراكية، ويطالب بنظام جمهوري نيابي، ويرفض الأحلاف العسكرية والدفاع المشترك. ثم أتبعه ببيانات تالية، توضح موقفه، وتشدد على القضايا الأساسية…].(9)
…”ولا بد من الاعتراف أن الحزب كان يشجع “الشيشكلي” ضمناً طيلة مرحلة “ازدواجية السلطة” (من 19/12/1949 إلى 6/12/1951) للضغط على حزب الشعب من موقعه في قيادة الجيش وإحباط مشاريعه المشبوهة، باعتبار أن “الشيشكلي” كان يعتبر نفسه صديقا للحزب ( بدءاً من لقاءاته مع بعض قادته في حرب فلسطين)، وبتأثير بعض الضباط البعثيين الذين كانوا حوله، ثم تخلى بعضهم عن الحزب واستمروا في التعاون معه بعد ذلك على حساب الحزب.
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ “أكرم الحوراني” و(تنظيمه) كانوا أكثر تحريضاً للشيشكلي في تلك المرحلة، لأنهم على صلة وثيقة به منذ فترة طويلة (خاصة وأنهم من مدينة حماه)، كما كانوا أكثر حماساً ومشاركةً في مراحل الانقلابين السابقين (الزعيم والحناوي) من بقية التنظيمات السياسية الوطنية).
علماً أن موقف البعث، والأستاذ أكرم، في النضال ضد مخططات حزب الشعب كان من المنطلق الوطني ضد (المحور العراقي – الانجليزي) المذكور، بينما كان منطلق الشيشكلي وحلفاؤه خدمة المحور الآخر: (السعودي- المصري- الأمريكي). ولذلك سرعان ما انقلب على الجميع بعد ذلك وفقاً لقول المتنبي:
ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا
“وحتى البيان الذي أصدره الحزب في 8 كانون الأول 1951، بعد الدرجة الثانية من انقلاب الشيشكلي، كان يحمل تبريراً للانقلاب وللانقلابات السابقة: [“بفساد الطبقة الحاكمة “] التي زورت الانتخابات، وقمعت المظاهرات التي قامت بها الجماهير بقيادة البعث ضد معاهدة الدفاع المشترك، ولدعم مصر ومناصرة الكفاح الشعبي المسلح الذي باشره الفدائيون في منطقة قناة السويس ضد الاحتلال الانجليزي (قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952) والذي شكل الظاهرة الثورية الأولى في الوطن العربي في تلك المرحلة”. رغم أنه اشترط فيه [” لتصحيح مساوئ الحكم السابق”] ما يلي:
[ ” 1- أن يتاح للشعب إبداء إراداته بملء الحرية في انتخابات مقبلةٍ، بعد تهيئة القوانين والضمانات التي تحرره من سلطان الخوف وسلطة المال والجاه.
2- أن تعود الحياة الدستورية بكاملها وحقيقتها بالسرعة الممكنة.
3- أن تقتصر مهمة الحكم الانتقالي الراهن على تحقيق هذه المهمة القومية الخطيرة، دون تورط في أي ارتباط خارجي، وبصورة خاصة رفض مشروع الدفاع المشترك الاستعماري بكل قوة وصراحة…الخ].
واختتم البيان بما يلي:
[… إن حزب البعث العربي لا يمكن أن يكون في يوم من الأيام متخلياً عن الحياة الدستورية، ولكنه، وهو الحزب الانقلابي الاشتراكي، لن ينخدع بالمجالس النيابية التي لا تنفع إلاَّ المستغلين من الإقطاعيين والسياسيين المحترفين. لذلك فإن موقفه من جميع الأحداث العارضة رهن بما ينجم عن هذه الأحداث من تحرير فعلي للشعب، يقرّبه من أهدافه الحقيقية التي هي الحرية والاشتراكية والوحدة العربية].(10)
“وكالعادة ما كان الحزب يستفيق من (تورطه) في تأييد الانقلاب، حتى يستيقظ بأنه أول من يكتوي بناره، بمجرد ما يتأمن له الاستقرار في السلطة، فيهب للنضال لإسقاطه، بعد أن تنكشف حقيقة الديكتاتورية العملية. وهكذا دون أن تتعلم القيادة شيئاً من تلك (الحلقة الجهنمية)، رغم انتباه الحزب لاحقاً، واتخاذ قرارات في مؤسساته بدءاً من (مجلس الحزب الموسع في تشرين الأول 1953 برفض الانقلابات العسكرية، وتأكيد ذلك بوضوح قاطع في المؤتمر القومي الرابع 1960، ومع ذلك توالت الإنقلابات بشكل أو بآخر حتى الآن!!!
“وهذا النهج الخطير يشكل إدانة تاريخية لقيادات الحزب اليمينية في تلك الظروف، لأنها لم تدرك، وبالتالي لم تعمل على تثقيف الحزب والجماهير بأن البديل للأنظمة الإقطاعية البرجوازية هو النضال الشعبي المتصاعد، وليس الانقلابات العسكرية الفاشية المشبوهة التي تُحْضَر من قبل البرجوازية والاستعمار، لإكمال ما عجزت عنه البرجوازية من تنفيذ لمصالحها وضرب الحركة الشعبية، وبالتالي تحصين الجماهير والحزب ضد مثل هذه الانقلابات، والعمل على الوقاية منها، وفضحها وكشف طبيعتها، ومواجهتها وإجهاضها وإسقاطها، وهي في المرحلة الضعيفة الأولى”، “راجع دراسة التجربة الجزء الأول”.
“فالقيادة القاصرة كانت تؤكد تارةً على تمسكها بالحياة الدستورية، والطريق البرلماني، وكون النظام الجمهوري هو القاعدة لكل انطلاق شعبي، وطوراً تشير إلى عدم انخداعها بهذه البرلمانات، لأنها فاسدة ولا تمثل الشعب، وتقول بأن الحياة النيابية لا تكون سليمة إلا بتحرر العمال والفلاحين، من خلال إصدار القوانين اللازمة لذلك، واتخاذ الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الشعب، حتى يستطيع أن يقرر مصيره بحرية، ووسط ضمانات قانونية كافية.(11)
وهذا صحيح، بحيث يضمن جناحي الحرية: الديمقراطية الاقتصادية الاجتماعية، والديمقراطية السياسية حسب فهمنا الحزبي الحالي الواضح للحرية التي لا يمكن أن تحلق إلاَّ بجناحيها المذكورين معا. “ولكنه فات الحزب أن ذلك مستحيل في ظل البرجوازية المتخلفة، لأنه يعني نهايتها الحتمية…”.
“وهكذا كانت القيادة تقود الحزب إلى التخبط بمجرد الاحتكاك مع الواقع، وطبعاً كان الحزب يدفع الثمن الأول والباهظ. فقد بادر طلابه بقيادة الحركة الطلابية في القطر، حيث انطلقت المقاومة من “جامعة دمشق”، واستمرت طيلة حكم الشيشكلي الأسود (بقيادة رفيقنا الدكتور نور الدين أتاسي، مسؤول المنظمة الحزبية في الجامعة، الذي كان بطل تلك المرحلة الأول بلا منازع، حيث اعتقل لأطول مدة في سجن “تدمر” الصحراوي، قاد خلالها إضراب السجناء السياسيين عن الطعام…)(12) و(13)، ثم بدأت المشاركات العمالية والفلاحية والجماهيرية اللاحقة التي شملت الحرفيين والتجار الصغار، وتطورت إلى صدامات دامية مع السلطة في كافة المدن السورية، سقط خلالها العشرات من الشهداء، وثورة “جبل العرب” المعروفة التي واجهها الشيشكلي بوحشية، وهكذا تصاعد المد الثوري الذي كانت الحركة الطلابية طليعته في تلك المرحلة، والشرارة الحية لإطلاقه ضد الشيشكلي.
وللأمانة التاريخية لا بد من تسجيل دور الطلاب الشيوعيين في الجامعة في جميع تلك المظاهرات، وفي سجن تدمر.
وقد كان الأساتذة الثلاثة (ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح البيطار) خارج القطر معظم تلك الفترة، حيث اضطروا لمغادرة القطر بعد دمج الحزبين (البعث والعربي الاشتراكي) في تشرين الثاني 1952، بفترة قصيرة، ولوحقوا حتى في لبنان، وأجبرتهم الحكومة اللبنانية، بتواطؤ “كميل شمعون” مع “الشيشكلي”، على مغادرته (بل كاد يسلمهم إلى الشيشكلي لولا تدخل المرحوم الشهيد كمال جنبلاط حماية لهم). فسافروا إلى روما، ثم عادوا بعد العفو العام الذي أصدره الشيشكلي بمناسبة (انتخابه) لرئاسة الجمهورية (تموز- يوليو 1953)، فاعتقلهم فيما بعد، إثر إعلانه القانون العرفي في كانون الثاني (جانفي) 1954 قبيل سقوطه.(14)
وفي غيابهم قادت الكوادر من الصفوف التالية (من تبقى من القيادة) وخارجها، نضال الحزب في القطر السوري، وأصبح الحزب أبرز قوة طليعية في قيادة التحرك الشعبي في تلك الفترة”، واكتسب- لأول مرة في تاريخ القطر- خبرة هامة في العمل السري.
*ونرى من الواجب، والإنصاف، والمفيد جداً، أن نشيد بمن تبقى من “اللجنة التنفيذية” داخل القطر، وبالكوادر المتقدمة، التي قادت تلك المعارك، خلال غياب الأساتذة الثلاثة، بمنتهى الكفاءة والتميز، ونورد بعضا من تلك الإنجازات والبيانات الواضحة والبالغة الجرأة، على سبيل المثال فقط، مع إحالة القارئ على الجزء الثاني من (نضال البعث) إذا أراد الإطلاع على تلك الملحمة الكفاحية المجيدة، فهو المصدر الذي أخذنا عنه المقاطع التالية:
أ- من بيان الحزب في أوائل أيار (ماي) 1953، بمناسبة جولة وزير الخارجية الأمريكية “دالس” في بعض الأقطار العربية (لم يدخل سوريا طبعاً)، الذي هاجم الامبريالية الأمريكية و(خلقها لإسرائيل)، واختتم [بدعوة القوى المخلصة إلى “جبهة شعبية متينة” تقود الشعب لتحقيق الأهداف التالية:
1 – إزاحة صاحب الانقلاب، وإقصاء الجيش عن السياسة.
2 – إقامة حكم نيابي شعبي سليم.
3 – محاربة كل محاولة لعقد الصلح مع (إسرائيل).
4 – مقاومة كل ارتباط مع الاستعمار الغربي الصهيوني والإصرار لإبقاء البلاد العربية على الحياد في الصراع الدولي الناشب.. “].
ب- وبمناسبة (الاستفتاء) على (الدستور الرئاسي) وعلى (انتخاب الشيشكلي كرئيس للجمهورية في الوقت ذاته، في 10 تموز “يوليو” 1953. أصدر الحزب “الرسالة المفتوحة الشهيرة في تموز “يوليو” 1953 التي انتشرت في القطر، وكانت بالغة التأثير، بالعنوان التالي:
“كتاب مفتوح من حزب البعث العربي الاشتراكي”
إلى أديب الشيشكلي وزمرة أعوانه العسكريين
جاء في مطلعه: عبثاً يحاول حكمكم العسكري أن يعيش، إذ لا مكان في أرضنا العربية لحكم أجنبي استبدادي طائش. إن الشباب الحر الذي آذيتموه والفلاحين الذين اضطهدتموهم، والعمال، وصغار التجار وكل من يحب وطنه، يصرخ بكم اليوم : أن اذهبوا !
لقد أطاح هذا الشعب بمغتصبين كثيرين، وفيه من هم على استعداد لأن يموتوا من أجل الحرية ! ومن العبارات البالغة الجرأة التي جاءت في ذلك (الكتاب) الطويل:
“… لقد كان انقلابكم بداية تحول في الوضع السياسي العربي (…) فاختنقت الحركة الشعبية في بدايتها، ومهد الجو للحكم العسكري وشبه العسكري في البلاد العربية كلها، وعاد الاستعمار يسيطر على الشعب بأسلحته وعملائه وزبانيته، والحق أن انقلابكم الأخير انقلاب أجنبي، احتضنته أمريكا، حامية الصهيونية، ورحبت به الدول الاستعمارية الأخرى!! نحن نعلم ذلك، وأنتم تعلمونه، والشعب بكامله يعرف اليوم من تمثلون…].
وتمضي الرسالة أخيراً، إلى القول:
… [ إن شعار المواطنين في هذه المرحلة من تاريخ الوطن مستمد من الأهداف الآتية:
1 – مقاطعة هذا الحكم، والنضال المستمر ضده، وضد كل المحاولات الرجعية والاستعمارية التي يحاول فرضها على البلاد.
2 – إبعادكم عن الحكم، وإقصاء الجيش إقصاء كلياً ونهائياً عن السياسة، وإعادة الحياة الدستورية الصحيحة إلى البلاد.
3 – اعتبار كل ما تقومون به لاغياً، سيمحوه الشعب…].
– وتختتم الرسالة بما يلي:
…[ “إن كفاح الأحرار سيظل مستمراً، وإننا، مع كل من يشعر بالكرامة والعزة، مستعدون لبذل دمائنا من أجل الحرية الغالية المقدسة، ومن أجل أن يبلغ الوطن المعذب أمانيه في الحرية، والوحدة العربية، والاشتراكية.
نقول باسم الشعب: لا يمكن لحكم الخونة الجبناء أن يدوم ! (المصدر ذاته).
جـ – ومن بيان /آب (أوت) 1953/ بعنوان:
* الدعوة إلى ميثاق وطني*
الذي جاء في مطلعه ما يلي:[ “أرادوا أن تكون سورية بلداً مقيداً يسهل جره واحتلاله. فلتكن بلد المقاومة الثابتة، تحبط الأطماع الأجنبية، وتطوي كل خائن مستبد.
هذا العهد الأجنبي مسخر لتخريب البلاد، وإعادة الاحتلال إليها، فليعمل الغيورون على إزالته، وإنهاء الحكم العسكري، وإقامة حكم شعبي تحرري سليم.
إلى النهاية ضد حكم الطغيان، والقتل وخنق صوت الشعب.
حتى الموت ضد عهد التآمر والجوع والبطالة والكساد.
يا أحرار سورية والبلاد العربية الأخرى: ناضلوا في
جبهة واحدة لإنقاذ الوطن ومحو العار”].
… ويمضي البيان إلى القول:
[“إننا باسم هذا الشعب، ندعو إلى ميثاق قائم على هذه الأهداف:
1 – مقاطعة الحكم القائم مقاطعة تامة، والنضال ضد كل مؤامراته الرجعية والاستعمارية.
2 – إزالة هذا العهد، وإنهاء الحكم العسكري، والعودة بالجيش إلى مهمته الأساسية في الدفاع والتقوية والوحدة وإقامة حكم نيابي جمهوري تحرري سليم.
3 – دعوة الشعب إلى العمل لهذا الهدف.”](15)
4 – وفي كانون الأول 1953، يوم شمل الإضراب الجامعة السورية وكل مدارس القطر، وامتدت المعارك إلى معظم مدنه وقراه، واعتقل الآلاف من الطلاب والمواطنين(16) أصدر الحزب بياناً بعنوان:
* لقد قال الشعب كلمته في حكم الخيانة والطغيان*
أشاد فيه بتلك الانتفاضة الشعبية الشاملة المتصاعدة الباسلة، وندّد بوحشية النظام، وختم البيان بما يلي:
1 – تنحي المغتصب أديب الشيشكلي عن السلطة والحكم.
2 – إقصاء الجيش عن الحكم والشؤون السياسية إقصاءً فعلياً.
3 –تسلم الشعب قضيته بحكم البلاد حكماً ديمقراطياً صحيحاً…] (المصدر ذاته).
هـ – ولعل من أهم تلك الانجازات، وأبعدها أثراً، عقد ما سمي: “المؤتمر القومي الحزبي المصغر” الذي يعتبر مجلساً حزبياً موسعاً، وتم سرا في مدينة حمص في تشرين الأول (أكتوبر) 1953، وبغياب الأساتذة أيضاً، بمشاركة بعض المندوبين من لبنان والأردن والعراق. وكان من أهم قراراته ذلك القرار النوعي التالي، حول رفض الحزب المطلق للانقلابات العسكرية(17):
[ أ- يجب التأكيد على فشل تجربة الحكم الديكتاتوري، عسكرياً كان أم غير عسكري، وشجبها من قبل جميع الفروع والشعب، وتأكيد ضرورة السعي الدائم لإنهاء هذه التجربة، والقضاء على هذا النوع من الحكم لضمان الانطلاق العربي الثوري، والتأكيد على أن النظام الأمثل هو النظام الديمقراطي القائم على التكتل السياسي ضمن أحزاب عقائدية في جو حر، وأن النظام البرلماني على مساوئه القائمة، خير من أية ديكتاتورية عسكرية، وأن الواجب هو السعي لإصلاحه لا إلى الكفران به، وأن ما أصاب النظام النيابي من فشل، لم يكن لعيب فيه، ولكن بسبب إساءة تطبيقه، وهو ما يمكن علاجه”].(18)
و= أخيراً، تنفيذ دعوة الحزب إلى قيام (جبهة وطنية) في تموز(جويلية) 1953، التي جاءت متأخرة بملابساتها، وعدم إشراك الشيوعيين فيها، ودور الأستاذ جلال السيد التقليدي المعروف، وقد كان مندوب الحزب في ذلك الاجتماع السري، الذي تم الاتفاق فيه على تلك «الجبهة”، وبالتالي عدم ارتياح القيادات والكوادر والحزب عامة عن تلك التركيبة المتناقضة، والصيغة الشكلية وغير الفاعلة عملياً، كما سنرى لاحقاً.
“وقد تواصل النهوض الثوري حتى انقلاب حلب العسكري، الذي جاء امتداداً للحركة الشعبية العارمة بقيادة ضباط الحزب، واضطر الشيشكلي لمغادرة القطر، بعد أن أصبح في مواجهة الشعب والجيش (ما عدا العصابة المحاصرة المحيطة به).(19)
ومع ذلك رفضت قيادة الحزب استلام السلطة، وكانت حقاً طبيعياً وواجباً على الحزب، الذي سلمت بقيادته لتلك المرحلة الكفاحية الفريدة الأكثرية الساحقة من الجماهير، في الوقت الذي تخاذلت فيه الأحزاب التقليدية، واضمحلت فاعليتها وتواجداتها إلى حد بعيد. (ومع ذلك ما أن سلمت لها السلطة مجاناً- حتى بادرت لتشديد وإبعاد الضباط البعثيين الذين قادوا عملية التغيير وإسقاط نظام الشيشكلي) !!!.
وكانت الحجة الظاهرة أن الحزب لا يريد (التفرد) بالسلطة، ولا استلامها إلاَّ بالطريق البرلماني، وهذا ما تكرر بعد “عصيان قطنا” الذي قام به الضباط الحزبيون 17 آذار (مارس) 1957(20). وانتهى بتسويات بين ضباط الحزب والكتل العسكرية المغامرة الأخرى، وكذلك ببعض التسويات داخل الحكومة، حيث رفضت قيادة الحزب أيضاً، استلام السلطة في ذلك الوقت، بينما كان يقال: أن السبب الرئيسي لعدم استلام السلطة في الحالتين يكمن في “التخوّف” من مواجهة أمريكا وحلفائها وعملائها الرجعيين في الداخل والخارج، في ذلك الوقت الذي كان يحتدم فيه الصراع الضاري بين الجماهير وقواها الوطنية وبين الرجعية والصهيونية، والاستعمار حول الأحلاف العسكرية العدوانية، والمشاريع الامبريالية للهيمنة على الوطن العربي”.
“ولعل في التصريح التالي للأستاذ “أكرم الحوراني”، عضو قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في ذلك الوقت، ما يوضح جانباً من ذلك الموقف، وذلك بمقابلة في جريدة “البعث” العدد 668- 3 تشرين الأول (أوكتوبر) 1954، بعد سقوط الشيشكلي بعنوان :”لن نتحمل مسؤولية الحكم قبل أن يحوز حزبنا بالطريق الديمقراطي على الأكثرية، ولن تكون الانتخابات تعبيراً عن إرادة الشعب ما لم يصبح الجهاز الحكومي بخدمة الشعب” (ونضيف نحن أنه لن يحدث ذلك حتى يزول النظام الإقطاعي البرجوازي).
أجاب الأستاذ الحوراني على سؤال مراسل الجريدة:
[ س3- هل سيشترك نواب حزب البعث العربي الاشتراكي في الوزارة الجديدة في حال تأليف وزارة ائتلافية؟
ج- إن السير الطبيعي للحزب أن لا يتحمل مسؤولية الحكم قبل أن يحوز بالطريق الديمقراطي على أكثرية برلمانية، وهذا لا يمنع الحزب أن يستمر بحملة الجهاد لتحقيق شعاراته التي كان يعمل لتحقيقها في المجالس الماضية، سيّما وقد أصبح جو المجلس قابلاً لتنفيذها.
وأضاف الأستاذ الحوراني قائلا: إن ما يشيعه خصوم الحزب يقصد منه إثارة القلق والخوف في بعض الأوساط الطيبة المحافظة (؟ !!! علامات من عندنا)، وهي دعايات كاذبة لا تستحق أن يؤبه بها، لأن شعاراتنا في المرحلة السياسية القادمة هي:
1 – إقامة حكم ديمقراطي صحيح، وذلك بتنفيذ أحكام الدستور والقوانين لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة، وتنفيذ المشاريع الإنشائية، ووضع التشاريع التي أصبحت البلاد بأمس الحاجة إليها.
2 – صيانة استقلال البلاد وسيادتها ومحاربة المشاريع الاستعمارية”.] (انتهى النص)(21)
“وقد استطاع الحزب في تلك الفترة المحتدمة وحتى الوحدة /1958/ ضمان ولاء الجيش لهذه الأهداف، واستخدامه في الضغط إلى جانب الحركة الجماهيرية ضد البرجوازية والإقطاع، وفي سبيل إحباط المؤامرات الاستعمارية، ومشاريع الأحلاف، والحشود التركية، وتشكيل المقاومة الشعبية المسلحة، ودعم نضال مصر والجزائر والأقطار العربية الأخرى، الأمر الذي صان القطر (المعبأ نضالياً) من تلك المؤامرات، وقطع الطريق على مخططات الامبريالية والرجعية في استخدام الجيش ضد الشعب في انقلابات عسكرية مشبوهة، وفي إطار (لعبة) الصراع الإمبريالي في المنطقة.
وكان لضباط “البعث” في تلك الفترة دور تاريخي مشرّف في التحالف العسكري الشعبي، الذي ساهم في صمود القطر الوطني- القومي في تلك المرحلة النضالية المضيئة، فكان القطر العربي الوحيد الذي لم يدخله مسؤول أمريكي واحد، وأعيد المبعوث الأمريكي “مورفي” من مطار دمشق، والبلد الوحيد الذي لم يقبل أي مشروع أمريكي أو أجنبي آخر، حتى “النقطة الرابعة”، وحتى إدخال “الكوكاكولا”. والبلد الأول، مع مصر، الذي ساهم بكسر احتكار السلاح، واشترى السلاح من تشيكوسلوفاكيا، وأقام صلات التعاون الاقتصادي والثقافي والفني مع الاتحاد السوفياتي” بالإضافة إلى مشاركته في “مؤتمر باندونغ” وتأسيس “حركة عدم الانحياز”.
“ولمواجهة ذلك الدور لجأت الأوساط الامبريالية إلى الاغتيالات، حيث اغتيل العقيد “عدنان المالكي” (القائد القومي- التقدمي) البارز في الجيش، والذي كان محسوباً على “البعث”، وكان من المناضلين والمعتقلين أيام حكم الشيشكلي، على أيدي “الحزب القومي السوري” الذي مارس دوراً فاشياً معادياً لحركة التحرر العربي في تلك الفترة. [وذلك في 22 كانون الثاني (يناير) 1955، وكان ذلك المناضل يمثل الاتجاه الشعبي السائد في الجيش (الذي كان يعبر عن الشعارات التالية):
1 – لا أحلاف مع الغرب.
2 – الجيش السوري جيش للعروبة جمعاء.
3 – سياسة سورية الخارجية يجب أن تكون تعبيراً عن رغبات العرب في التحرر والوحدة العربية والحياد، مؤكداً بعد الجيش عن التدخل في أمور السياسة اليومية، ما دام هناك برلمان يضبط هذا الاتجاه السليم”].(22)
وقد بادرت الجماهير الغاضبة، ثم الحكومة، بعد ذلك، لتصفية الحزب السوري القومي في القطر”، وأثناء ذلك الاحتدام المتواصل، تم إحباط عدة مؤامرات، مدعومة من “حلف بغداد والامبريالية الأمريكية، ومشاركة كل القوى الرجعية الداخلية في القطر والمنطقة، وصولاً إلى تصفية عدد هام من رؤوس التآمر الرجعيين في الجيش، وسيطرة الحزب والقوى القومية التقدمية على قيادة الجيش…” وقد ساهم “عصيان قطنا” الذي نفذه الضباط الحزبيون في تصحيح المسار بنفس الاتجاه عام 1957″.
* [وفي أثناء حكم “أديب الشيشكلي” حدثت ثلاثة أمور هامة:
الأول: هو إصرار قاعدة حزبي البعث، والعربي الاشتراكي، على الاندماج باعتبار الحزبين يهدفان إلى الوحدة والحرية والاشتراكية، ويصارعان أخطاراً واحدة. وقد تم الدمج في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 1952 (في خضم النضال المشترك ضد ديكتاتورية الشيشكلي)، وكان على أساس دستور “البعث العربي” مع إضافة كلمة “الاشتراكي” إلى إسم الحزب، وانضمام أكرم الحوراني إلى قيادته، مع تفويض هذه القيادة بعدم قبول أي عضو من أعضاء حزب “العربي الاشتراكي” لا تراه أهلاً لشرف العضوية، وتوحدت القوى بهذا الدمج، كما كان له أثر فعال في القضاء على الشيشكلي.(23)
الثاني: دعوة الحزب إلى “جبهة وطنية” ، تم تكوينها في مؤتمر عام (سري) في حمص /30 تموز (جويلية) عام 1953/ صدر عنه بيان يوضح أهدافها وغاياتها، ويلاحظ أن “الميثاق الوطني” لتلك “الجبهة” منطلق من الأهداف التي طرحها الحزب. في دعوته إلى ذلك، كما ذكرنا سابقاً، وهي:
1- التخلص من الشيشكلي ونظامه الديكتاتوري.
2- إقامة نظام ديمقراطي برلماني.
3- صيانة الحريات العامة.
4- صيانة الاستقلال والجمهورية السورية.
5- وأخيرا، بقاء الجيش في ثكناته.
وقد رُفض اشتراك الشيوعيين في “الجبهة” لمشاركتهم في (استفتاء وانتخابات الشيشكلي)، أما الحزب القومي السوري، فكان من دعائم الشيشكلي (يقال: بأن الشيشكلي كان من أصول قومية سورية وملتزماً بالحزب)؟(24) أما الجبهة فلم تكن في الواقع ذات نشاط على صعيد مختلف الأحزاب، (علماً أنها تأخرت كثيراً، وقامت قبيل حوالي سبعة أشهر من سقوط الشيشكلي). وظل النضال السري والعلني يقوم به، ويقوده حزب البعث العربي الاشتراكي، وبقيت الجبهة مظهراً لكسب الرأي العام الخارجي، ذلك أن رجالات الأحزاب الأخرى، ظلوا في معزل عن النضال، بعيدين عن معرفة تفاصيله حتى لقد طلب كثيرون منهم من الشيشكلي حين زُجّوا في السجن السماح لهم بمغادرة البلاد إلى غير رجعة.(25)
الثالث: فهو أن الشيشكلي عمل على وضع (دستور) يوطد حكمه و(مجلس نواب) انتهازي مزور، ليوهم الشعب بحكم شعبي ديمقراطي، وقد أجرى عملية استفتاء قاطعه الشعب، إلا أن النسبة التي أعلنت رسمياً كانت كبيرة، ولم ينجده (الدستور) ولم ينخدع الشعب. وقد رأينا (رسالة الحزب المفتوحة وبعض بياناته التي توضح كل ذلك)(26) و(27)
* ويهمنا هنا أيضاً أن نكرر نفس الاستنتاج العام السابق الذي لاحقناه منذ بداية انقلاب حسني الزعيم، حول قصور وعي قيادة الحزب في تلك المراحل، وتخبطها وتوريطها الحزب والجماهير في مواقف خطيرة ومتناقضة، فنضيف: أن القيادة عادت لنفس النغمة في عدم تحمل مسؤولية الحكم بعد الإطاحة بالشيشكلي، وتركه غنيمة سهلة للحزبين الرجعيين الإقطاعيين – البرجوازيين السابقين “الحزب الوطني” و”حزب الشعب”، تهرباً من مسؤولية السلطة، وتحمل المهام الجسيمة المطروحة، ومواجهة الهجمة الامبريالية الصهيونية الرجعية المتفاقمة، مفضلة التستر وراء الحكم، ومتابعة ممارسة دور الضاغط بالجيش والشعب ونواب الحزب، لتنفيذ الأهداف والشعارات المرحلية التي ذكرناها سابقاً، محملة الحزبين الحاكمين كل المسؤوليات، وملقية عليهم كل النقائص والأخطار والانحرافات والتقصير.
“ولكن كما يبدو لنا الآن أن الحزب لم يكن يملك القدرة والبرنامج لاستلام السلطة بعد إسقاط الشيشكلي، “وعصيان قطنا”، ولذلك تهربت القيادة من ذلك، حتى إذا عادت السلطة الإقطاعية البرجوازية إلى عادتها السابقة، كما كان يحدث كل مرة، بادرت القيادة لزج مناضلي الحزب في الشوارع، بأول مظاهرة ليلية في دمشق، انطلقت من مكتب الحزب الجديد في “عرنوس” (وكنا –كطلاب جامعة بعثيين – على رأسها) فطوقت البرلمان، واستمرت حتى إسقاط الحكومة).
“فبعد مائة يوم تقريباً من الحكم الجديد الذي جاء بعد إسقاط الشيشكلي، والذي كان مشتركاً بين حزبي الشعب والوطني، عادت الحكومة لنبش واستخدام قانون الانتخابات القديمة، ورفض التعديل الذي طرحه الحزب، كما عاد “صبري العسلي” نفسه لطرح قانون ديكتاتوري هو نسخة طبق الأصل عن “قانون الملاكات” الديكتاتوري الشهير رقم (50) !!!.. الذي طرحه العسلي ذاته بعد الاستقلال، والذي أسقطه نضال الحزب والجماهير إذ ذاك، معتبراً ذلك النصر الديمقراطي بمثابة التمهيد لانتصار قضية فلسطين”. هذا القانون الذي كان من شأنه أن يقيد حرية الأحزاب، والصحافة والنقابات، وكل الحريات الديمقراطية الأخرى للمواطنين” (28)،
[“وبعد فترة من التعثر (والمؤامرات الامبريالية الرجعية المتواصلة التي أحبطها الحزب والجماهير، وحلفاء الحزب التقدميون، والتيار الوطني الصديق في الجيش)، والحكم الائتلافي، استمرت حوالي سنة ونصف، بدأت فكرة “التجمع” و”الحكم القومي”، ولم يكن ممكناً أن يقوم حكم قومي دون “ميثاق” ترتضيه الأحزاب والفئات جميعاً، وقد تشكلت لجنة لهذا الغرض من الأحزاب الثلاثة (البعث + الشعب + الوطني) والمستقلين عامة، وقدم البعث مشروع “ميثاق الحكم القومي” الذي كان الميثاق الذي تألفت فيه الوزارة الجديدة على أساس نسخة مشوهة عنه، وإن كان الحزب قد استطاع أن يحافظ على روحه التحررية، وانسجامه مع رغبات الشعب في كثير من نصوصه(…) وقد صرح مندوب الحزب بعد انتهاء المناقشات “بأن حزبه غير مقتنع بالميثاق وإن كانت الظروف قد أملته عليه” ] !!! (29)
وقد كان ميثاقاً، وحدوياً، ديمقراطياً، تقدمياً، في جميع المجالات الداخلية والعربية والدولية. “ولقد قادت تلك الحكومة (القومية)، التي شكلت لاحقاً بعد عدة تعثرات في حزيران 1956، والتي (اشترك فيها الحزب)، القطر السوري حتى الوحدة بين سورية ومصر، حيث أقر المجلس النيابي مبدأ الوحدة بالإجماع، ما عدا خالد بكداش- النائب الشيوعي الوحيد إذ ذاك- الذي غادر القطر كما ذكرنا، حيث تبين بعد ذلك أن الحزب الشيوعي السوري كان له موقف سلبي من الوحدة !!
وقد فوّض المجلس النيابي تلك الحكومة، التي كان الأستاذ صلاح البيطار وزير الخارجية فيها، بالتفاوض مع مصر لتنفيذ القرار وقيام الوحدة، وهكذا كان..”.
هوامش:
1. “نقد التجربة الجزء الأول ص (73)”.
2. “نضال البعث- الجزء الثاني – ص (45) حول “اتحاد سوريا والعراق”.
3. كتاب “حزب البعث العربي الاشتراكي، مصطفى دندشلي ص (142-143)
4. المصدر ذاته ص (134) … وما بعدها.
5. راجع “نضال البعث- الجزء الثاني”.
6. “مصطفى دندشلي- المصدر ذاته ص (142).
7. (مصطفى دندشلي المصدر ذاته).
8. [نضال البعث الجزء الثاني (ص 12)].
9. [المصدر ذاته- ص 191].
10. [ نفس المصدر ص 193-194].
11. [راجع نضال الحزب – الجزء الثاني: ص 191- 193].
12. استمر الاعتقال لحوالي 6 أشهر- وهو أطول مدة (متواصلة) في ذلك الوقت…. بينما اعتقله النظام السوري الحالي، المرتد وهو رئيس الجمهورية والأمين العام للحزب- دون اتهام ومحاكمة – إثر انقلاب على الحزب في 16 تشرين الثاني 1970، وحتى قبيل استشهاده بمرض عضال في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1992/ نتيجة ذلك السجن الطويل في سجن المزّة العسكري الشهير … حيث أهمل ولم يعالج في الوقت المناسب… فماذا نقول عن الشيشكلي والحكم الحالي الذي يرفع شعارات البعث !!!
13. أثناء اعتقالنا (الأول)، في “النظارة” الكائنة في (قبو) مقر وزارة الداخلية في (سراي) المرجة، تم حشرنا في تلك الغرفة الإسمنتية العارية الباردة الخالية من النوافذ التي كان يوجد في (صدرها) لوح خشبي ملتصق بالجدار، نستعمله كمقعد لبعضنا في النهار، وينام عليه أحدنا في الليل، حيث كنا ننام بكامل ثيابنا لانعدام أي فراش أو غطاء، على أرض الغرفة الجرداء. كانت دوريات الشرطة تأتي كل ليلة، بمن تلتقطهم من الشوارع من سكارى ومشردين، ومتعاركين ولصوص عاديين…إلخ، وتحلق لهم رؤوسهم على (الصفر) وتزجهم تباعاً في تلك “النظارة”، التي كنا (نحتلها) باستثناء ناحية الجدار المقابل، على الباب، الذي يوجد في زاويته الداخلية “حفرة المرحاض والمغسلة” حيث كانوا يتراكمون، ويتضاحكون كأن شيئاً لم يكن!!!
بينما كنا نحن (المثقفين الثوريين) (نحقن) أنفسنا بالمثل العليا كمناضلين معتقلين في سبيل قضية وطنية ديمقراطية كبيرة.
ومن ملاحظاتي لتصرفات تلك المجموعات من المواطنين البسطاء، وما ذكرته سابقاً (الهامش 3 من الحلقة الحادية عشرة) عن بطولات أبناء الشعب العاديين إبان المظاهرات ضد حكومة جميل مردم، بالإضافة إلى معرفتي بالصراعات الدموية أحياناً، بين الفلاحين، حول أمور عادية، لا تستحق ذلك، وتسبب لهم السجن الطويل…إلخ تأكدت، مجدداً، من قدرة الكادحين الفائقة على التحمل، وضرورة تركيز الحزب عليهم، بالتوعية المتواصلة، لتحويل تلك القدرات، المهدورة عبثاً في مشاكل يومية تافهة، إلى طاقات موجهة لخدمة القضايا الكبرى للوطن والجماهير، حيث يكمن هنا مفتاح الثورة. مذكراً برسالة الإسلام التي حولت تلك الصراعات الجاهلية والاقتتال الجاهلي بين قبائل العرب إلى مجرى الصراع الأساسي الصحيح الذي وحدهم، وغير العالم “وحقق أعظم حضارات التاريخ الإنساني”.
•وأعود إلى مظاهرات الجامعة، و(التكتيك) الذي كنا نتبعه للمحافظة على العناصر القيادية النشيطة، كشرط لابد منه لاستمرارية الإضراب والتظاهر، بعد موجات الاعتقالات السابقة، لأن عدد الحزبيين لم يكن كثيراً من حيث (الكم)، ولكنهم القوة القيادية المحركة للأحداث. لذلك كنا ندخل الجامعة، صباحاً، (بالتاكسي)، ونطوف على المدرجات نخطب فيهم ونخرج الطلبة إلى ساحة الجامعة. وهناك نبدأ برشق الشرطة التي تطوقها بالحجارة، ونستدرجهم –بين كر وفر- لدخول الجامعة، واعتقال الطلاب –هكذا بدون تمييز- بينما نسارع إلى القفز فوق مجرى فرع نهر بردى الصغير الفاصل بين الجامعة والملعب البلدي –الذي يقع فيه معرض دمشق الدولي حالياً، لنتسلل، من هناك، ونختفي، ثم ندخل الجامعة، صباح كل يوم، كالسابق، لنعاود الكرة. بحيث توسعت الاعتقالات بين الطلاب العاديين، الذين لا ينتمون إلى الأحزاب المعارضة، وبالتالي كان يزداد عدد العائلات المتضررة، وتتعالى النقمة الشعبية ضد النظام.
-كما كنا، أحياناً، حسب توفر الظروف، نركض، وكل واحد منا يحمل كمية من الحجارة، نرشق بها الشرطة، ونخترقها، وصولاً إلى ثانوية التجهيز الأولى غير البعيدة عن الجامعة، حيث يتم الإلتحام مع طلابها، وصولاً إلى مبنى البرلمان القريب، لإشراك الشعب في التظاهر والخروج بالعملية، عن إطار الجامعة.
-وصولاً إلى ذلك اليوم المشهود من كانون الأول (ديسمبر) 1953 الذي عبر عنه بيان الحزب المذكور حيث كانت تزودنا الطالبات والممرضات بالحجارة المنتزعة من بلاط الأرصفة. كما كان بعض الرفاق، يلتقطون القنابل المسيلة للدموع، التي تلقيها علينا الشرطة، ويقذفونهم بها ثانية. وكانت المعركة أمام باب إدارة الجامعة، والمستشفى الجامعي، بالإضافة إلى شارع أمام الجامعة ذاتها. وقد اقتحمت الشرطة المستشفى ودخلت قاعات المرضى، وتم اعتقال عدداً من الممرضات وطلاب الطب.
ومن جهة ثانية اقتحم العقيد “أسود” الجامعة، بشاحنات الجيش، واعتقلوا عدداً كبيراً من الطلاب، بصورة عشوائية، كنا بينهم هذه المرة.. وزجونا في سجن “الشرطة العسكرية” المقابل للجامعة، حيث حقق معنا رئيسها العقيد “حسين حدة” ثم نقلونا بالشاحنات، بعد إطلاق سراح بعض الطلبة العاديين إلى معسكرات الجيش في قطنا. وحسب ما أذكر لم يحتفظوا بنا طويلاً، بل أطلقوا سراحنا، في اليوم التالي أو الذي يليه؟. لأن النظام كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث لم يلبث أن سقط في 25 شباط (فيفري) 1954.
ومن الجدير بالذكر أن العقيد “حسين حده وأخاه العقيد “حسن حده، كانا بعثيين سابقين، وبينما تعاون “حسين” مع “الشيشكلي” فقد بقي “حسن” على علاقته بالحزب.
ليست الحقيقة كما جاء في (نضال البعث – الجزء الثاني- الطبعة الثالثة- حزيران (جوان) 1972) في هامش ص 212، كما يلي : [“ولكن الأساتذة الثلاثة ما لبثوا أن عادوا إلى دمشق، فاعتقلتهم شرطة الشيشكلي، في كانون الثاني (جانفي) 1952 إلى أن خرجوا من السجن بعد زوال الحكم الديكتاتوري”]. والأغلب أن الأمر مجرد خطأ مطبعي، فهم غادروا القطر، أصلاً، بعد دمج الحزبين بفترة قليلة (تشرين الثاني (نوفمبر) 1952). فكيف يعودوا قبل أن يغادروا؟ ثم عادوا، بعد العفو العام، الذي صدر (بعد انتخاب الشيشكلي تموز (جويلية) 1953)، وحتى “المؤتمر القومي المصغر”، الذي انعقد في تشرين الأول (أوكتوبر) 1953، لم يكونوا قد عادوا بعد، حيث بحث أمر عودتهم إلى القطر باتخاذ القرار التالي: [ بحث أمر عودة القادة البعدين عن القطر السوري واتخذ فيه قرار مناسبا استند إلى المعلومات التي قدمها إلى المؤتمر فرع سوريا”] (نضال البعث- الجزء الرابع- الطبعة الأولى- حزيران (جوان) 1971 ص 41) وكان الاعتقال غالبا في 27 كانون الثاني (جانفي) 1954 وليس 1952 بعد إعلان الأحكام العرفية كما ذكرنا.المصدر ذاته ص 222-223.
14. ومن المفارقات الفظيعة المذهلة أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في وطننا العربي تسير إلى الوراء، وتواصل انحطاطها إلى قاع الهمجية والوحشية الدامس المرعب، بحيث أصبحت سجون الأنظمة الرجعية القديمة، التي حاربها الحزب، ويستنكرها الأستاذ ميشيل عفلق، إذ ذاك، بمثابة (استراحات) أمام سجون الأنظمة الديكتاتورية المتتالية ومروراً بمخابرات “السراج” أيام الوحدة المغدورة، حيث خطفوا المناضل فرج الله الحلو أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني، وذوبوه في (حوض الأسيد)، وجعلوا (الأجهزة) بديلاً للشعب، مما جوَّف الوحدة، وسهل انهيارها بشكل فاجع، وصولاً إلى سجون (بعض الطغاة) الذين يحكمون باسم البعث، التي تعتبرها (جحيماً) حقيقياً: الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود (بالمقلوب شيخاً على حافة القبر)، وقد جسدوا أفظع قمع (منهجي) شنيع عرفته المنطقة، و(طوروا) أساليب التعذيب، بالمضافرة (الخلاقة) بين عقلية قرون الاستبداد المظلمة، المتخلفة، وآخر ابتكارات التكنولوجيا العالمية في هدر واستلاب إنسانية الإنسان، وتحطيم شخصيته، وسحق كرامته الآدمية، وهو (الكائن الذي شرفه الله، ونفخ فيه روحه)، حيث استشهد العديد من خيرة قادة وكوادر ومناضلي حزب البعث بالذات! والآلاف من مناضلي القوى الوطنية المعارضة عامة، من أبناء أمتنا الشرفاء، وحيث: أي خلاف في الرأي أو الموقف من قضايا الوطن والأمة –مع هذه الأنظمة- يعرض صاحبه لمخاطر الملاحقة والتصفية الجسدية!
فأين هذه الحالة المأساوية الفاجعة من نضال البعث السابق المجيد في سبيل الديمقراطية وحرية وكرامة الإنسان، والمبادئ الأساسية التي قام عليها، ووجد من أجلها أصلاً. وهل كان يتصور (مؤسسو) الحزب، بل أي إنسان مر في هذا الحزب الديمقراطي العظيم، الوصول إلى مثل هذه المراحل التي فاقت خيالات شياطين جهنم؟!..
15. ثم ماذا فعل الأستاذ ميشيل (رحمه الله)، وغيره من قادة الحزب التاريخيين والمؤسسين، من ذلك كله؟! الذي يعتبر في أساس الانحدار والنكوص الحالي، الذي أوصل الوطن العربي إلى الغرق في مستنقع العجز والمهانة والتبعية والاستسلام)؟! لأن حرية المواطن هي أساس حرية الوطن، وضمان مناعته وصموده واستقلاله.
16. وعلى الجميع في هذا الحزب- مهما كانت مواقعهم الحالية، من الذين ساهموا في الخروج عن هذا المبدأ، سواء بعلمهم أو من وراء ظهورهم، أو بصمت البعض عنه، وتسليمهم، ناهيكم عن (مباركته)، أن يعتذروا علناً للشعب والحزب عن كل ذلك. لنعيد لقيمة الحرية قداستها الراسخة، غير القابلة للمس، ولتصبح الحياة جديرة بأن تعاش..
17. فكما تقول الآية الكريمة: «… من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» (المائدة 32).
18. [النشرة الداخلية السرية: [نضال البعث – الجزء الرابع الطبعة الأولى 1971 (ص 40-42)].
19. (دراسة تجربة الحزب… الجزء الأول- ص 93، مع الإشارة إلى أننا سنتعرض بتفصيل أشمل لدور الجيش وموقف الحزب منه في (موضوع: الظاهرة العسكرية).
20. بعد اضطراره إلى الفرار من سورية، وفشل مؤامراته اللاحقة، بالتعاون مع الأجهزة الأمريكية، للعودة إلى القطر والحكم، اغتاله مواطن من “جبل العرب” في عام 1965 أو 1966على الأرجح، في منفاه في أمريكا اللاتينية. وهكذا قتل قادة الانقلابات الثلاثة: “حسني الزعيم”، “سامي الحناوي” و “أديب الشيشكلي” !!!
21. حول “عصيان قطنا” 17 آذار (مارس) 1957 لقد شاركت فيه شخصياً، حيث كنت في “خدمة العلم” طبيباً لفوج “المغاوير” الوحيد في الجيش والذي كان في قطنا، إذ ذاك، وتمكنت من إقناع جميع الضباط، بعدم مقاومة “العصيان” بل جعل مناخ الفوج إيجابياً وهو ما سمح “لفوج المصفحات” الذي كان يتمركز في المنطقة العليا المحاذية، لفوج المغاوير، بالمرور من الطريق الذي يجتاز موقع فوج المغاوير والذي لابد منه للوصول إلى مدخل معسكر قطنا الأساسي العام وإغلاقه. وقد أخبرني الرفيق (الحموي) الذي كان برتبة ملازم أول –بعد سيطرته على “فوج المصفحات” أنه مضطر للمرور، بالقوة إذا لم يسمح له بذلك. وبالتالي، فقد تحقق كل شيء بسلام. مع العلم أن قائد فوج المغاوير “المقدم عدنان الدقر” ومعظم ضباطه الأساسيين، كانوا من دمشق، ويعتبرون من المحسوبين بشكل أو بآخر على (الكتلة الشامية)، أو العسكريين المحترفين، ولكنهم كانوا طيبين وجيدين من (الناحية السلوكية). وكان في الفوج رفيقان حزبيان فقط، من الضباط الصغار هما: الملازم الثاني محمد رباح الطويل (أبو رباح)، والملازم الثاني سليم حاطوم، وصديق هو الملازم أول علي أصلان، وصديقان (شخصيان) آخران، تراجعا، وخافا، بعد انتهاء (العصيان).
وقد كنا جميعاً –كما ذكرت في مكانه- ضد توقف (عصيان قطنا) عند ذلك الحد المعروف الذي اعتبرناه إجهاضاً، والاكتفاء بتثبيت بعض الضباط البعثيين، والقوميين الذين كان النظام الرجعي يريد تصفيتهم، و(صديقهم عبد الحميد السراج) في قيادة الجيش –وأذكر عندما سألنا الأستاذ أكرم عن ذلك الموقف أنه قال لنا: “أن عبد الحميد نفسه طيب”!.. الذي أبقي في مكانه رئيس للشعبة الثانية، حيث انقلب على الحزب، بعد ذلك، مع سجل ممارساته المعروفة حتى الوحدة والانفصال.
كما كان موقف قيادة الحزب، إذ ذاك، من العوامل الأولى، التي أيقظت وعي القواعد الحزبية في الجيش، بالإضافة إلى رفض الحزب استلام السلطة، بعد (إسقاط الشيشكلي). وساهمت في زعزعة ثقتها بالقيادة، وكانت مع غيرها من المواقف اللاحقة، ومنها (حلّ الحزب)، من أسباب التفكير في إنشاء “اللجنة العسكرية” في مصر –بعد الوحدة- كما سنرى في حينه.
وبغض النظر عن مواقع كل واحد من ضباط ذلك “الفوج” عبر مسيرة الأحداث المتلاحقة في القطر، أرى من الواجب ان أسجل استمرار الرفيق “أبو رباح” المناضل الشهم في خط الحزب، ومشاركته الفعالة في كل نضالاته، حتى تاريخ استشهاده الفاجع في /1 / أيار (ماي) 1993، بعد فترة قليلة من خروجه مريضاً منهكاً من سجن المزة “الذي زجه فيه النظام السوري الحالي، بعد انقلابه على الحزب والدولة، حيث كان وزيراً سابقاً للداخلية، وعضواً في القيادة القطرية للحزب.
22. ” نضال البعث – الجزء الثالث” ص (16-17).
23. [نضال البعث الجزء الثالث – ص 77 “مصرع العقيد الشهيد عدنان المالكي”].
24. حول دمج الحزبين: البعث العربي والعربي الاشتراكي، في حزب واحد، كان أمراً طبيعياً بالنسبة لحزبين (قوميين واشتراكيين) متشابهين، وقد أعطى ذلك الدمج مداً شعبياً نضالياً قوياً للحزب، فلم يكن مجرد جمع عددي، بل قوة نوعية جديدة، ومكسباً نضالياً ضخماً لحركة التحرر العربي، واستمر حتى المؤتمر القومي الخامس، الذي عقد إبان الانفصال عام 1962/ حيث فصل الأستاذ أكرم، ومجموعة كبيرة معه، لا بل أخذ عدد غير قليل من ذوي الأصول البعثية السابقة. وبقيت أعداد أخرى كبيرة خارج التنظيمين.
25. من الجدير بالذكر.. حصول تطور داخل الحزب القومي السوري- في أتون الحرب الأهلية في لبنان – بحيث ظهر فيه تيار جديد تبنى التوجه القومي العربي والديمقراطية والاشتراكية، خلافاً للنهج الإقليمي اللاديمقراطي المحافظ السابق الذي وضعه مؤسس الحزب (أنطون سعادة). وهذا تطور جيد، يستحق الترحيب والتشجيع. نرجو أن يتواصل ويتبلور بصور متكاملة ونهائية. لأنه لا يجوز مصادرة التطور بأي حال، مع الإشارة إلى بقاء قسم آخر على نهج (الحزب السابق) التابع لأنطون سعادة.
26. اشترك في مؤتمر حمص “جلال السيد” كممثل للحزب، حيث كان الأساتذة الثلاثة كما ذكرنا، منفيين في روما، ويلاحظ هنا استبعاد الشيوعيين من الجبهة، التي ضمت بالإضافة إلى الحزب: الحزب الوطني، وحزب الشعب، والمستقلين، ومن البديهي أن الحزب الشيوعي كان مرفوضا من الحزب الوطني وحزب الشعب. ويبدو أن موقف حزبنا الذي عبر عنه مندوبه جلال السيد، لم يكن ايجابيا بالنسبة للشيوعيين، رغم أن الشيوعيين شاركوا معنا في النضال ضد الشيشكلي، وكانوا في سجن واحد في تدمر مع رفاقنا الحزبيين، إلا أن الحساسية ضدهم كانت موجودة داخل الحزب، وموجودة في جوهر منطلقات مؤسسي الحزب الفكرية المثالية المعادية للشيوعية، وكذلك في ممارسات الشيوعيين الخاطئة في بعض القضايا الوطنية والقومية، وقد استبعد الشيوعيون بحجة مشاركتهم في (الاستفتاء على دستور الشيشكلي، وانتخابه لرئاسة الجمهورية. ثم في (الانتخابات النيابية) التي قاطعتها جميع الأحزاب الوطنية رغم قولهم بأنهم فعلوا ذلك بدعوى المعارضة !! . وهذه عقلية خالد بكداش رحمه الله ومجموعته البيروقراطية المعروفة في جميع المراحل، إبان الاستعمار الفرنسي وقيام (الجبهة الوطنية) في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، والحكم الرجعي بعد الاستقلال، وحتى الآن .. في التحاقه (بجبهة النظام السوري الحالي)، بكل ما أنزله ذلك النهج الخاطئ من كوارث بالحزب الشيوعي السوري، وهدر تنظيمات مناضليه المجيدة، وصولاً إلى تمزقه الحالي. وقيام “تيار” المكتب السياسي المنقذ بقيادة المناضل الرفيق “رياض الترك” ورفاقه. وقيام التجمع الوطني الديمقراطي الذي يضم القوى الديمقراطية المعارضة في القطر السوري. فلقد كنا معا إبان النضال ضد الشيشكلي، ولم يشارك معنا أحد من تلك الأحزاب الرجعية المذكورة ميدانيا، ونذكر – للأمانة- مشاركة بعض المستقلين: “منهم من كانوا يدعون (جماعة سامي كبارة في دمشق) وجماعة (هاني السباعي) في حمص. وقد شكل موقف (قيادة الحزب الشيوعي البكداشية) في ذلك الوقت صدمة لرفاقه الشيوعيين المناضلين الذين كانوا مع رفاقنا داخل سجون الشيشكلي. كما كانت (مجموعاتنا البعثية) في الجامعة ضد إعادة الاعتبار لحزبي الشعب والوطني، بعد أن انتهيا عملياً، ونسيهما الشعب تماماً، الذي لم يشعر بوجودهما معه في النضال والتضحية ضد نظام الشيشكلي .
27. [نضال البعث – الجزء الثاني- ص 211-212)
28. في مجال دعوة الحزب لمقاطعة “الاستفتاء” و «الانتخابات” أذكر على سبيل المثال فقط- أني كنت في القرية – خلال العطلة الجامعية الصيفية- وجاءنا العقيد آمر درك المنطقة)- وكان بعثياً قديماً- يرجونا أن لا نحرض الشعب على المقاطعة. وأني كنت قاسياً جداً معه – رغم أنه كان في بيتنا – فقلت له أن (صناديقهم) ستحطم، أو يأخذونها فارغة- أو تملأ (بالأوساخ). فخذوها وانصرفوا، لأنكم لن تجدوا صوتاً واحداً معكم في هذه الناحية. وأفشلناها فعلاً.. وأظن أن بقية النواحي لم تختلف كثيرا عن ذلك.
29. وكل ذلك يدل على قصور في فهم الظروف والتنبؤ بالأحداث وكيفية التعاطي الثوري معها، وتوظيفها في خدمة مصالح الجماهير التي يناضل الحزب من أجلها، وفي اغتنام الفرص التاريخية المتاحة لنضال الحزب والجماهير لاستلام السلطة، أو منع الانتكاسات الرجعية والفاشية على الأقل، “دراسة التجربة – الجزء الأول- ص80”. وقد لمنا وقتها قيادة الحزب، التي سلمت السلطة الرجعية.. لتعود لتحريك الحزب لإسقاطها مجدداً. وربما كانت بداية وعي جديد مختلف بالنسبة لمجموعتنا الحزبية في الجامعة، إذ ذاك، التي كان يقودها رفيقنا نور الدين أتاسي رحمه الله. علماً أن استلام السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية، هو الطريق الأفضل طالما أمكن ذلك.
30. [ راجع مشروع الميثاق الذي قدمه حزب البعث العربي الاشتراكي في 14 أيار (ماي) 1954- نضال البعث – الجزء الثالث ص 149].