مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس

حــزب البعـث الديمقراطـي الاشتراكي العربـي

مراجعة وتوسيع وإغناء

الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب

“مع التركيز على حركة 23 شباط/ فبراير 1966”

(مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس)

توضيح من اللجنة المركزية القومية لحزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي:

فقد حزبنا في عام 2013 أحد أبرز قياديه على مدى تاريخه كله، المناضل والسياسي العربي المعروف، الرفيق الدكتور ابراهيم ماخوس، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية السورية الأسبق، أمين عام حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي منذ عام 1980 وحتى وفاته.

تلقى الرفيق الدكتور ابراهيم ماخوس أوائل حزيران 1980 رسالة من الرفاق القادة المعتقلين في سجن المزة العسكري يطلبون فيها أن يقوم بتأليف وإصدار كتاب عن حركة 23 شباط/ فبراير 1966.

في السنوات الأخيرة من عمره، أخذ الرفيق الراحل يدون مذكراته وتجربته وآراءه، فجاءت بحجم كبير، يغطي تاريخاً كاملاً منذ تأسيس الحزب وحتى كتابة تلك المذكرات.

كان الرفيق مصراً على أن تطبع مذكراته وتنشر في الجزائر أولاً. وكانت رغبته هذه محل احترام وتقدير من قبل الرفاق، ومن قبل الأخوة الجزائريين الذين كانت تربطه بهم أواصر الصداقة والمحبة ورفقة السلاح والنضال منذ الثورة التحريرية الجزائرية التي تطوع فيها طبيباً مجاهداً إلى جانب كوكبة من الرفاق، في مقدمتهم الرفيقان الخالدان الدكتور نور الدين الأتاسي والدكتور يوسف زعين.

كلف السيد وزيرُ المجاهدين الجزائري “المركزَ الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954” بطباعة المذكرات وإصدارها. وقد قام المركز، مشكوراً، برقن المذكرات فعلا. وراجع الرفيق الدكتور ابراهيم ماخوس قسماً منها، ونظراً لحالته الصحية آنذاك كلف كلاً من الرفيقين محمود جديد وابراهيم معروف بمراجعة الأقسام الأخرى.

بعد المراجعة والتصحيح، انتظرنا طباعة المذكرات ونشرها من قبل المركز حسب تكليف السيد وزير المجاهدين. وتابع الرفيق ابراهيم معروف، بتكليف من الرفيق الدكتور ابراهيم ماخوس، مراجعة المركز بهذا الخصوص، ولكن رغم المراجعات العديدة، والاتصالات المتكررة التي استمرت إلى ما بعد وفاة الدكتور ابراهيم ماخوس، لم ينجز المركز هذه المهمة.

لقد انتظرنا طويلاً، وبذلنا، نحن وأسرة الرفيق الراحل، كل ما في وسعنا من جهود في سبيل طباعة وإصدار المذكرات من الجزائر، نزولاً عند رغبة الراحل الكبير، وللأسف الشديد لم تفلح هذه المساعي، وتوصلنا إلى قناعة بأن تلبية تلك الرغبة باتت غير ممكنة، على الرغم من كل الجهود الي بذلها الحزب وأسرة الرفيق الراحل.

بعد ذلك توجهنا، عام 2015، بالاتفاق مع أسرة الفقيد، إلى دور النشر في القاهرة وبيروت، وتبين لنا أن تكاليف نشر المذكرات على نفقتنا فوق طاقتنا.

وخلال هذه السنوات كنا نأمل ونعمل على أن تصدر المذكرات ورقياً في حلة تتناسب مع أهميتها ومكانة صاحبها.

أما اليوم، وبعد أن واجهتنا هذه العقبات الكثيرة، وحرصاً على الفائدة، ومنعاً لأي التباس، ولقطع الطريق على محاولات الاصطياد في الماء العكر، ولتبديد الأوهام التي تراود البعض، وبعد موافقة من ورثة الرفيق الراحل الشرعيين: العزيزة الدكتورة هلا ماخوس والعزيز المهندس أحمد ماخوس، وبتفويضٍ قانوني رسمي منهما عند الموثق (الكاتب بالعدل)، عزمنا على نشر المذكرات في مواقع التواصل الاجتماعي (الانترنت) في حلقات متتابعة، راجين تحقيق الغرض والفائدة المتوخاة، ريثما نتمكن من طبعها في كتاب جزءاً بعد آخر… وهذه هي الحلقة الأولى:

 اللجنة المركزية القومية- تموز/ يوليو 2022

الإهداء

إلى جميع الرفاق المناضلين المخلصين الذين ساهموا في حياة هذا الحزب، منذ مراحل التبشير إلى بداية التأسيس (نيسان 1947) وحتى الآن.. الأحياء منهم والأموات، من الذين حافظوا على إيمانهم بهذا الحزب، والتزامهم بمبادئه الأساسية، ولم يخونوه، أو يرتدوا عليه؛ فـ”منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا”.

مع احترامنا وتقديرنا ومحبتنا الرفاقية الصادقة لكل هؤلاء المناضلين الشرفاء في الوطن العربي وفي الخارج، فإن من واجبنا أن نتوجه إلى رفاقنا الشهداء بفعل الردة الانقلابية على الحزب ونظامه التقدمي في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 كرموز مضيئة لهذه المرحلة من تاريخ الحزب، وفي مقدمتهم الرفيقان الرمزان الشهيدان الدكتور نور الدين الأتاسي، الأمين العام للحزب، ورئيس الدولة (الذي كتموا قصداً مرضه داخل سجن المزة العسكري- الذي كان قابلاً للعلاج والشفاء، فور اكتشافه، وتركوه ليستفحل وينتشر ويصبح مستعصياً على العلاج… واللواء صلاح جديد، الأمين العام المساعد للحزب، الذي تم اغتياله بحقنة سامة داخل السجن… والرفاق الأبطال الذين استشهدوا تباعاً، بعد خروجهم من السجن، بفعل حوالي ربع قرن من المعاناة التي لم يشهد لها مثيل في تاريخ القطر العربي السوري المنكوب، ومنهم الرفاق: محمد رباح الطويل (أبو رباح)، وسليمان الخش، وعزت جديد، ومحمد عيد عشاوي، دون أن ننسى شهداء الحزب الأبطال، ورمزهم الرفيق العقيد عبد الكريم نصرت في العراق.. والفدائي الأخضر العربي في لبنان، وغيرهم في فلسطين واليمن وكل مكان من ساحات النضال في الوطن العربي بأسره(*)، وكذلك الرفاق (الشهداء الأحياء) الذين مازالوا يحملون أمراضهم المزمنة بفعل سنوات السجن الطويلة التي التهمت شبابهم، ومازالوا يحافظون على إيمانهم الراسخ بالحزب وصمودهم المشرف… وكل الرفاق الذين تعرضوا (للقمع المركب) والملاحقة والتشريد حتى الآن، ومازالوا يحملون راية هذا الحزب وأمانة شهدائه الخالدين الأبطال؛ آملاً، وقد أصبحت في هذه السن المتقدمة، وقد أعطيت حياتي لنضال الحزب وقضايا الأمة والوطن المقدسة، أن أكون قد وفيت لمطلب الرفاق القادة المعتقلين، في إعادة مراجعة تجربة الحزب بصورة موسعة، وإغنائها بقدر الإمكان اعتماداً على “الأجزاء الأربعة: للدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب والعوامل والأسباب الأساسية التي أدت إلى سقوط سلطة الحزب” التي كانت القيادة القومية، قد كلفتني بإعداد مشروعها، ومن ثم تقديمها إلى المؤتمر القومي الحادي عشر (المنعقد في صيف 1980)، لإقرارها وطباعتها (باسم المكتب السياسي القومي) وتوزيعها (سراً) بعد ذلك كما ذكرنا سابقاً، وبالاعتماد أيضاً على عدد من المراجع الأخرى المفيدة، التي تمكنت من الحصول عليها، وعلى ما تسعفني ذاكرتي خلال تلك المراحل الطويلة والتركيز خاصة على حركة 23 شباط حسب طلب الرفاق. وإذ أعتذر منهم لأني لم أكتبها “كمذكرات شخصية”، كما اقترحوا في رسالتهم (المرفقة)، فلأنها ملك الحزب بأسره. وكانت ومازالت، كما ذكرنا في مقدمتها الأولى، مفتوحة للرفاق والأصدقاء: إضافة وحذفاً وتعديلاً، بحيث تتكامل باستمرار. وقد استغرق هذا الإعداد الجديد بعد وصول رسالة الرفاق من السجن حوالي العشر سنوات بفعل الانهماك بالمهام الحزبية الأخرى، ومصاعب الحياة، وعبر مراجعتها وإعادة تدقيقها أكثر من خمس مرات، راجياً أن تلبي طلب الرفاق الأعزاء، وتجسد أقصى درجات الصدق والموضوعية، إنصافاً لتاريخ هذا الحزب المتميز والذي لا بديل له – حتى الآن – في الوطن العربي، بإيجابياته المشرفة المشرقة التي يجب أن تبقى مصدر إلهام للأجيال المناضلة المتلاحقة على طريق استعادة النهوض القومي الوحدوي التحرري الديمقراطي الحضاري المنشود. وكذلك بنقد أخطائه وسلبياته، التي نود تشخيصها أيضاً، حتى نحصن هذه الأجيال الجديدة ضدها ووقايتهم من تكرارها، أو الوقوع بمثلها بأي حال في المستقبل.

* بعد هذا، أرجو أن يسمح لي الرفاق أن أتوجه بإهدائي أيضاً إلى والدي الجليل الشيخ أحمد ماخوس رحمه الله وطيب ثراه، الذي كان يدعم نضالنا طيلة حياته، وربانا على الالتزام الصادق بقضايا الوطن وجماهير الشعب الكادحة، وإلى والدتي الفاضلة (عبلة) ربة البيت البارعة المضيافة الكريمة، رحمها الله وطيب ثراها. وإلى زوجتي ورفيقة حياتي (المكافحة) الصابرة “نهيلة” التي أعطت شبابها وكل حياتها لمساعدتي في نضالي الحزبي إضافة إلى معاناة احتضان بنتينا: بانة وندى (اللتين ولدتا مصابتين بما يسمى “فقر دم البحر الأبيض المتوسط الوراثي المجهول السبب”) بكل آلامه المعروفة، حتى دفنتا تباعا في (مقبرة الدار العالية) في مدينة الجزائر حيث يرقد عدد هام من قادة وشهداء الثورة التحررية العظيمة. كما أن زوجتي استضافت الرفاق الحزبيين الذين أخذوا يتوافدون علينا في الجزائر بعد أن ضرب النظام السوري المرتد (القيادة) في بيروت، وخطف بعض أعضائها، وسجنهم في سجن المزة، فانتقل مقر القيادة القومية إلى الجزائر، حيث عوملنا (مع الفارق طبعاً) كالمهاجرين والأنصار. ولابد أن نسجل اعترافنا إلى الأبد بفضل الأخوة الجزائريين المجاهدين الأوفياء، الذين أمّنوا بتعاطفهم وحمايتهم وتسهيلاتهم الأخوية، مواصلة نضالنا، والمحافظة على حزبنا القومي؛ فلهم مني عميق الشكر والامتنان والتقدير، آملاً أن يستعيد حزبنا نهوضه الثوري المبشر، والمساهمة مع بقية القوى الوطنية والقومية الديمقراطية في التغيير الديمقراطي المنشود والمنقذ لوطننا العربي المنكوب، الذي أصبح محط الاستباحة المسعورة من قبل التحالف الإمبريالي – الصهيوني بتسهيلات الأنظمة الرجعية المنبطحة العميلة، وتحول من مركز للنهوض والإشعاع الثوري السابق، إلى نقطة الضعف الكبرى في العالم المنكوب بأسره.

الرفيق: الدكتور إبراهيم ماخوس

مقطع من الرسالة المطولة التي يبدي فيها الرفاق آراءهم وملاحظاتهم حول المؤتمر القومي الحادي عشر. المقطع الأصل موجود في ملف المؤتمر القومي الحادي عشر:

2 -“يرجى دراسة اقتراح إصدار كتاب عن حركة 23 شباط (أسبابها- مبرراتها- إنجازاتها- سياساتها المختلفة… إلخ والانقلاب الذي جرى عليها: أهدافه- أبعاده… إلخ). لقد أصبح هذا الموضوع ملحًا إلى أبعد الحدود إذ شوهت وجهة نظرنا من جهات متعددة معروفة لكم، واتُهمنا بأسوأ الاتهامات من الخيانة الوطنية إلى سوء الأخلاق والسلوك.. إلخ. ويضطر الكتّاب والمؤرخون والدارسون إلى الأخذ بها لخلو المكتبات من أي مصدر آخر، وهكذا تتربى الأجيال المتعاقبة على حمل أسوأ الانطباعات عن فترة حكم الحزب بعد 23 شباط، وكذلك عن أشخاصنا. وكاقتراح يمكن أن يكون هذا الكتاب على شكل مذكرات، وأنسب رفيق لهذه المهمة هو الرفيق إبراهيم ماخوس باعتباره كان وزيراً للخارجية، وكشخص معروف على كل صعيد، مما يضمن رواج الكتاب وتوزيعه على نطاق واسع. ونعتقد أن الظرف الحالي مناسب جداً أكثر من أي وقت مضى.

يرجى الاهتمام بهذا الاقتراح مهما كانت مشاغلكم”.

أوائل حزيران /1980

رفاقكم

المقدمة

لقد وصل إلى قيادة الحزب في الخارج، منذ مدة طويلة جداً.. “اقتراح” من الرفيق صلاح جديد “أبو اسامة” الأمين العام المساعد للحزب، باسم الرفاق المعتقلين معه “بتوقيع رفاقكم”.. بضرورة: “إصدار كتاب عن حركة 23 شباط: أسبابها- مبرراتها- إنجازاتها- سياساتها المختلفة.. إلخ، والانقلاب الذي جرى عليها: أهدافه وأبعاده.. إلخ”(1)، “واستنسابي لهذه المهمة لتوضيح حقيقة هذه الحركة، وإنصاف المناضلين الذين قاموا بها، وتجربتها المشعة، التي نلاحظ (القفز) المتعمد فوقها، وتجاهلها، بل ومحاولة تشويهها، منذ الردة التشرينية عام 1970 وحتى الآن، مجاملة للمرتدين، وأنظمة عربية أخرى تحقد على هذه التجربة المتميزة، المناقضة لمجمل الواقع العربي الرسمي السائد حالياً.

ويبدو أن ظروف السجن القاسية، لم تسمح للرفيق “أبو اسامة” ورفاقه بالإطلاع على “الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب” (2) بأجزائها الأربعة، التي صدرت عن المؤتمر القومي الحادي عشر (عام 1980) والتي تناولت مسيرة الحزب منذ تأسيسه في 7 نيسان 1947، وحتى ذلك المؤتمر، ووثقت حركة 23 شباط /1966/ بما يستجيب –ولو نسبياً- لجوهر “الاقتراح” المذكور؛ الأمر الذي كان – في حال حدوثه- سيسعده ويريحه، قبل استشهاده الفاجع في سجن المزة العسكري صباح الخميس 19 آب “أوت” 1993.

ولكن – ومع قناعة الرفيق “أبو اسامة” أن وثائق الحزب المعتمدة وأدبياته المتواصلة منذ حركة 23 شباط 1966/ خاصة، وبعد الردة عامة، أغنى وأكثر شمولاً بما لا يقاس من أي “كتاب” فردي آخر-  فإن إدراكه للواقع المؤلم بعدم توفر هذه الوثائق في المكتبات العامة، وكون القراء عامة، لا يقدمون على قراءة الوثائق التي تصدر عن الأحزاب – أياً كانت- إلاّ في حدود ضيقة جداً، من قبل بعض المهتمين بتتبع ذلك فقط.. بينما يكون الإقبال أكثر على قراءة ما يصدر عن الأشخاص -خاصة إذا كانوا من الأسماء المعروفة- هو الذي دفعه مع ورفاقه إلى تقديم ذلك “الاقتراح” بأن أتولى ذلك؛ علماً أن هذه المعادلة، يجب أن تكون معكوسة، في حال توفر مجتمعات مدنية واعية بأهمية التنظيم الحزبي الحاسمة في حياة الجماهير، لأن ما يصدر عن المؤسسات الحزبية يمثل حصيلة العقلية الجماعية الأكثر علمية وموضوعية ودقة وشمولا مما يصدر عن الأشخاص مهماً كانوا.

وإني إذ أباشر – ولو متأخراً جداً، وبعد تردد طويل- بإعداد هذا “الكتاب” باسمي الخاص،  استجابة لذلك “الاقتراح” الهام الذي أعتبره توصية غالية ملزمة،  ووفاء ومحبة وتقديراً للرفاق المعنيين عامة، والرفيق “أبو أسامة” خاصة، الذي حسم استشهاده المأساوي ترددي ودفعني لانتزاع ما يمكن من الوقت الضيق المتقطع لإنجاز هذه “المهمة”؛ أود أولاً وقبل كل شيء، أن أعتذر لأرواح الرفاق الشهداء من قادة حركة 23 شباط وكذلك للرفاق (الشهداء- الأحياء) الذين قضوا حوالي ثلث إلى نصف أعمارهم في غياهب السجون لتمسكهم بخط الحزب المبدئي وإخلاصهم لقضايا الوطن والأمة.. عن هذا التأخير الاضطراري المؤسف في تلبية طلبهم، وأن أشير – في الوقت ذاته- إلى حجم المعاناة التي يعيشها المناضل القيادي على الخصوص، في مثل ظروف حزبنا الاستثنائية القاسية التي يعرفها الرفاق، والانشغالات اليومية المضنية، التي لا تقبل الإرجاء، في متابعة وتلبية مطالب ومستلزمات العمل الحزبي والسياسي.. التي نادراً ما تسمح (بالتفرغ) الضروري.. بله الانسحاب من العمل اليومي – ولو مؤقتاً- للاستغراق الكامل الذي يقتضيه إنجاز مثل هذا (الكتاب) المنشود بما يعنيه من مسؤولية تاريخية، ويتطلبه من تفكير وتأمل عميقين ومراجعة واسعة وتدقيق صارم، وخاصة في الأوضاع البالغة الصعوبة والتعقيد التي عاشها الحزب وقيادته بعد الردة، ولا مجال للدخول في تفاصيلها حالياً (وآمل أن أتمكن من ذلك مستقبلاً) حيث كان المناضلون في خضم مواجهة التركيز التآمري المكثف والمتواصل من خارج الحزب و(داخله.. وهو الاشد خطورة وإيلاماً) لتدمير المركز القيادي، وإغراق القيادة بالمشاكل اليومية المفتعلة، وشلها، واستهلاكها في أمور جانبية مرهقة، وإلهائها عن العمل الحزبي الأساسي الفكري والتنظيمي والسياسي النضالي المنتج في ساحات الوطن المعنية (السورية والفلسطينية واللبنانية خاصة) بغية إرباك الحزب وتفتيته واحتوائه، أو تصفيته نهائياً، حسب ما يتوهمون… مع كل ما تتطلبه مواجهة ذلك من جهود صادقة خارقة حثيثة لحماية الحزب والمحافظة على خطه القومي المبدئي وموقفه من قضية فلسطين والصراع العربي- الصهيوني، ومجمل القضايا العربية والدولية المطروحة، وصيانة وحدته القومية، واستقلاليته، وضمان استمراريته النضالية، ورؤيته الثورية نقية عالية مهما كانت الظروف والأحوال.

وقد لعبت بعض العناصر والزمر والتكتلات (السرطانية) المأجورة، والمضللة، واليائسة، أدواراً مأساوية في تنفيذ عمليات التشويه والتخريب والتشرذم داخل الحزب. وكان بعضها (يتغطى) بقوى وأنظمة (وطنية)، مع الأسف، كانت تساهم بذلك في خدمة النظام السوري عملياً، رغم خلافاتها الظاهرية والتناحرية معه، لأن أي إضعاف للحزب والقوى الوطنية الديمقراطية المعارضة في القطر السوري يصب في مصلحة النظام السوري بالذات. وبعضها كان مشبوهاً يتقلب من حضن لآخر -دون أن يرف له جفن- وفقاً لمصالحه المادية الخاصة. والبعض احترف (التبطل الثوري)، أي (التفرغ) لمحاربة الحزب مقابل (جعالات) مادية هامة جعلته يدعو، في آن واحد، بطول البقاء لمصادر التمويل، وبطول العمر للنظام السوري، بسبب ذلك التمويل، مما حوّل تلك (المعارضات) الوهمية الانتهازية (في الخارج خاصة) إلى تجارة رائجة أكثر ربحاً وسهولة من أية تجارة عادية، باستثناء (تجارة السلاح والمخدرات).

وقد استهلكت تلك المؤامرات المركزة والمناورات والظواهر المرضية المؤذية قسطاً كبيراً من جهودنا المضنية، وفترات طويلة ثمينة من أوقاتنا وسنوات حياتنا، بفعل الحرص الصادق الصبور، وتقدير القيادة للظروف الصعبة المحيطة، ومحاولتها بكل الوسائل الرفاقية الديمقراطية المتاحة إنقاذ من يمكن من الرفاق قبل السقوط؛ واضطرارها لاتباع هذا الأسلوب المكلف والمرهق في مواجهة عمليات التخريب المتواصلة لحماية الكتلة الأساسية في الحزب، بدل الأسلوب الحزبي النظامي (الإداري) الحاسم المباشر.

ومع ذلك، كان لابد من الكتابة – بقدر المستطاع- عن تلك المرحلة النوعية، خوفاً من الزمن والظروف المجهولة القادمة. وكم كنت أتمنى أن يتم ذلك في حياة الرفيق العزيز “أبو أسامة” حتى يشعر بشيء من الارتياح وهو في ظلمات سجنه المديد؛ مع الوعد بإعادة تدقيق وتوثيق كل ما يمكن إذا سمح الزمن والظروف القادمة بذلك، علماً أننا لانقصد التجني على أحد،  وإنما لأن التوثيق يضع الوقائع والأحداث والمواقف في إطارها التاريخي المحدد، ويزيد من وضوح وأهمية “الكتاب”، فيكون أكثر موضوعية ودقة من الذاكرة التي قد تتأثر بالزمن والوعي الراهن عند التعرض للوقائع القديمة.

ولهذا أود التوضيح بأن جوهر هذا (الكتاب) ومعظم ما فيه، مستوحى ومأخوذ من وثائق الحزب الرسمية المعتمدة قبل وبعد حركة 23 شباط/ فبراير 1966. وأرجو أن يعود أكبر عدد ممكن من الرفاق والمواطنين المهتمين، والقوى السياسية والمنظمات الشعبية والثقافية والمهنية، إلى الإطلاع على تلك الوثائق المرجعية الكاملة المذكورة للإحاطة الشاملة بتجربة حزبنا الهامة في حياة الوطن والأمة…علماً أني لست متفائلاً، بإمكانية نشر هذا “الكتاب” أو وصوله – في حال إصداره- إلى عدد هام من القراء، حيث سيحاصر ويصادر، ويختفي من أية مكتبة قد تغامر بقبول توزيعه، على غرار كل الأدبيات التي يصدرها حزبنا وسائر القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة. وأقول هذا ليس للتضخيم من أهمية (الكتاب) بأي حال، بل لأذكّر بأن الأنظمة القمعية تلاحق وثائق المعارضة أكثر من الأسلحة والمخدرات (التي تحتكر الاتجار بها غالباً)، لأنها لا تخاف شيئاً بمقدار خشيتها من الكلمة الصادقة المعبرة عن الحقيقة، ومن الوضوح الذي هو سلاح الجماهير الأساسي في نضالها من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة والتقدم.

ومن الجدير بالذكر أن التركيز على دور الرفيق صلاح جديد في سياق هذا (الكتاب) كونه عقل حركة 23 شباط وروحها الملهمة، والمناضل الاستراتيجي الأول المؤمن بالقيادة الجماعية، وبضرورة وحيوية بناء الحزب الثوري والمؤسسات الشعبية الديمقراطية كشرط لابد منه لتحرير وإنهاض الأمة العربية وتحقيق مشروعها القومي الحضاري الإنساني المعاصر… هو تعبير عن الأمانة والموضوعية والإنصاف، ولا يقصد مطلقاً، ولا يمكن أصلاً، أن ينتقص من أدوار بقية الرفاق المناضلين في قيادة الحزب والسلطة، كما سيرد لاحقاً، الذين يعترفون جميعهم، أيضاً، بتميز الرفيق صلاح وتواضعه الجم، وبتقديرهم لذلك التميز، خاصة وأن عملنا كان جماعياً، والإنجازات التقدمية التي تحققت في كافة المجالات هي حصيلة جهود جميع الرفاق.

وبالمقابل، فإن تركيز أعداء الحزب على التخلص من الرفيق صلاح جديد بالذات ورفاقه الصامدين الأبطال كان بهدف ضرب النموذج الثوري الذي يجسدونه.. النموذج المؤمن بقدرة الجماهير الكادحة المنظمة التي لا تقهر،والملتزم برسالة الأمة، والذي لا يساوم على القضية، ويستحيل إغراؤه أو احتواؤه بأي حال.

وبداية، لابد من توضيح سبب صدور جميع الوثائق الحزبية الرسمية بعد حركة 23 شباط 1966، وحتى الآن، باسم المؤسسات الحزبية المختصة فقط؛ وذلك بالعودة إلى المؤتمر القومي التاسع(3) الذي درس مشكلة “الوصاية على الحزب” و”سيادة هذا المنطق في ذهن القادة التاريخيين”، واتخذ القرارات اللازمة لمعالجة ذلك، ومنها “القرار (رقم 14- الفقرة ب) التي تنص على ما يلي:

…”اعتبار النتاج الفكري للحزب هو حصيلة مؤتمراته الحزبية، والحيلولة دون اعتبار النتاج الشخصي فكراً للحزب”…

فمنذ اتخاذ ذلك “القرار” لم يظهر اسم أي رفيق في تلك الأدبيات والوثائق الحزبية المعتمدة، وأصبح كل لذلك ملكاً للحزب وباسمه فقط.

وحتى قبل حركة 23 شباط/ فبراير 1966، ومنذ تأسيس الحزب عام 1947 كانت تظهر أسماء بعض القادة التاريخيين فقط، وخاصة الأستاذ ميشيل عفلق بالذات “رحمه الله”، الذي كانت تنشر كلماته ومداخلاته في المؤتمرات الحزبية والقيادية.. إلخ. وهكذا، فإن أسماء الرفاق (الجنود المجهولين) الذين أعدوا تقارير ووثائق المؤتمرات الحزبية في تلك الفترة غير معروفة إلاّ لمن بقي حياً منهم، ولمن كان على صلة مباشرة بهم ( نذكر من بينها، على سبيل المثال فقط، تلك التقارير والبرامج الرائعة التي صدرت عن المؤتمر التأسيسي الأول، والقومي الرابع، والسادس، والثامن(4) .. إلخ). وهذا ظلم تاريخي لأولئك الرفاق.

وكذلك الحال بالنسبة للتقارير التي صدرت بعد حركة 23 شباط/ فبراير 1966 عن المؤتمرات القطرية السورية والعراقية وغيرها، والمؤتمرات القومية: التاسع، والتاسع الاستثنائي، والعاشر، والعاشر الاستثنائي(5) ثم المؤتمر القومي الحادي عشر بعد الردة(6)، والقيادات الحزبية المنبثقة عن تلك المؤتمرات.

وهكذا، ولتفادي سلبيات “منطق الوصاية والاحتكار والتفرد والتشخيص”، واجه الحزب ما يمكن اعتباره سلبية تغييب أسماء الرفاق أعضاء “اللجان الحزبية التي أنجزت كل ما ذكرناه.. فلا أحد يعرف، تاريخياً، من المنتج، ومن الكسول؟ إلاّ إذا عاد لضبوط جلسات المؤسسات القيادية المعنية التي كانت تقوم بالتكليف، وتشكيل تلك اللجان، ما يصعب الرجوع إليها غالباً بفعل تشتت وضياع الأرشيف الحزبي، أو توزعه بين العديد من القيادات السابقة، والتشكيلات المختلفة التي تحمل (اسم الحزب)، والتي استولى أصحاب السلطة فيها على تراث الحزب وحرّفوه وشوهوه، وأعادوا (تفصيله) على مقاساتهم الخاصة، وبما يخدم مصالحهم الذاتية وأغراضهم السياسية فقط..

كان المفروض – حسب قناعتي الحالية- أن توضع أسماء الرفاق المكلفين افرادياً وكأعضاء في “اللجان التحضيرية” في مقدمة جميع تلك التقارير والدراسات والوثائق الحزبية التي كلفوا بإعداد مشاريعها، كما هو الحال في معظم الأحزاب الثورية في العالم.. وذلك للأمانة التاريخية، وحتى يأخذوا حقهم الحزبي المعنوي بالاعتراف بدورهم وجهودهم، بدلاً من طمس كل ذلك باسم (القيادة الجماعية) التي كانت تلك الوثائق من عمل عدد محدود جداً من أعضائها، بالإضافة إلى بعض الرفاق المؤهلين من خارجها أحياناً..

وأذكر في هذا السياق (دون تواضع كاذب أو غرور لا يليق بالمناضلين، أو تنكر لدور الرفاق الاخرين وجهودهم) أني ساهمت في جميع “اللجان” التي كلفت بإعداد تقارير ووثائق المؤتمرات الحزبية (القطرية السورية- والقومية) بعد حركة 23 شباط 1966 وحتى الردة؛ وكذلك الحال – بالطبع- في إعداد كل ما صدر عن المؤسسات الحزبية منذ الردة التشرينية 1970 وحتى الآن (7).

وهكذا.. فإني رأيت – كمناضل ملتزم- ضرورة الاعتماد على الوثائق الحزبية الرسمية التي تعبر عن وعي ومواقف الحزب الجماعية في تلك المراحل، والتي لابد من ذكرها -كما هي- حتى لا يتوهم البعض أننا نكتبها على ضوء وعينا الراهن فقط (لتجميل) مرحلتنا السابقة، أو (تبرير) أخطائها، علماً أن تلك الوثائق الشاملة لم تترك إلاّ القليل لأضيفه حالياً، خاصة بعض التفاصيل واللقاءات والاجتماعات العربية والدولية التي قد تقدم بعض الإيضاحات الهامة.

وكذلك فإن اضطراري للإكثار من الاستشهادات، فلأنها مبعثرة هنا وهناك، ومطموسة لم يطلع عليها إلاّ القلة.. ورغبة في إتاحة المجال مجدداً للاطلاع الأوسع. وما قد يبدو تكراراً هو “للتوثيق” الرسمي، وربط الموضوعات المقصودة في هذا “الكتاب” بهدف الوضوح والشمولية بقدر الإمكان، بما يسهل الإحاطة على القارئ الذي قد لا يمكنه الإطلاع على كل هذه الوثائق الكبيرة، وخاصة الأجيال الشابة التي لم تعايش تلك المراحل أصلاً، ولا تعرف عنها إلاّ القليل الذي قد يكون غامضاً ومشوهاً من قبل أعداء الحزب.

فلعلّ هذا “الكتاب”، المكثف والمختصر- نسبياً- لتجربة واحد من أهم الأحزاب القومية التقدمية في وطننا العربي، يتيح مجال الإطلاع للقراء المهتمين. وهذا بحد ذاته يستحق العناء. ومهما يكن، فإني أحاول إنصاف جيل من المناضلين المخلصين الذين أعطوا حياتهم لرسالة الأمة، فمن شاء الإطلاع والاستفادة فله ذلك.. ومن أبى فهذا شأنه..

وقد يتساءل البعض، بحزن وأسى، والآخر بسخرية وشماتة وخبث، عن جدوى الكتابة عن تلك المراحل الآن بعد (انهيار كل ما هو تقدمي في العالم) وهيمنة الإمبريالية الأمريكية عليه..؟ ولكن العكس هو الصحيح، فالكتابة الآن عن مراحل النهوض القومي المجيدة ورجالها الأبطال أهم من أي وقت مضى، لأنها تذكيرٌ بقضايا الأمة التي لا تموت، وإذكاءٌ لروح النضال المتجددة لتحقيقها، وزرع الأمل في نفوس الأجيال باستلهام تلك التجارب المضئية، والمحاولات المخلصة بدروسها المستفادة: تجاوزا لسلبياتها وتمثلاً لإيجابياتها؛ كي تنهض بمسؤولياتها الآن وفي المستقبل، خاصة وأن الأحداث والتطورات المأساوية الخطيرة الجارية قد أكدت صحة جوهر خط الحزب ونظرته للأحداث والأنظمة العربية عامة، وعدم وجود برنامج وطني- قومي بديل أفضل من برنامجه وخطه واستراتيجيته حتى الآن. ونذكر، بهذا الصدد، أن حزبنا قدم تحليلات هامة كثيرة متتابعة بلغت مئات ومئات الصفحات.. للأوضاع السياسية والأحداث السياسية المتلاحقة في الوطن العربي، وما يتعلق بها عالميا منذ عدوان حزيران (جوان) 1967 الصهيوني- الإمبريالي. وطرح الحلول الصحيحة لمواجهة الموقف، واستبق في نظرته الكثير من الوقائع التي حدثت لاحقاً، وحذر منها. ولكن الأمية السياسية الضاربة، والحصار المضروب على الحزب – بعد الردة- من جميع القوى الضالعة في التسوية- التصفوية من جهة، وضعفه بفعل الملاحقة والقمع المتواصل الذي أنهك قدراته في التأثير العملي المنشود من جهة ثانية، جعل كتاباته محدودة الانتشار. وهكذا ضاعت العديد من الأفكار النيرة، والمبادرات الصائبة والبالغة الأهمية والفائدة، في زحمة الأحداث حيث تسود الأفكار (الرسمية) المعادية والضحلة و(خدم) الأنظمة التصفوية والطمي الإعلامي الفاسد المسطح والمضلل للجماهير.

ولابد من المسارعة إلى القول إني بتنفيذي طلب الرفاق بإعداد هذا “الكتاب” لا أكتبه على “شكل مذكرات” شخصية كما اقترحوا، فـ”المذكرات” بصيغها المعروفة تتطلب شروطاً ومستلزمات عديدة غير متوفرة حالياً بفعل الظروف التي أعيشها في المهجر. وإن ما يرد في هذا “الكتاب” من إضافات خارج الوثائق الحزبية المعتمدة، لتوضيحها وإثرائها وتكاملها هو اجتهادات خاصة.. وبعضها فقط من الذاكرة – التي أعتذر مسبقاً- عما قد يشوبها من نقص، بفعل السن، وقدم الأحداث، وغياب المراجع اللازمة.

أذكر بهذه المناسبة أني سألت، ذات مرة، الأستاذ أكرم الحوراني (القيادي الحزبي السابق والمناضل السياسي الوطني البارز) رحمه الله، عن مصير مذكراته، التي علمت أنه كان بصدد إعدادها.. فأجابني – وهو رجل القانون- أن المشكلة التي تواجهه هي بالقسم التالي الذي يؤديه الشاهد أمام القضاء: “أقسم بالله العظيم، أن أقول الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة”، وأن التفكير بهذه الصيغة، يسبب له إحراجاً كبيراً، بالاقتصار على ذكر بعض الحقائق، أو ذكر كل ما لديه، ويصعب عليه إنجاز تلك المذكرات التي نشرت بعد رحيله إلى رحاب الله، وفيها ما فيها من عدم التزام بذلك القسم، مع الأسف، كما سنرى لاحقاً.

كما تحضرني، بهذا الصدد حكمة بليغة للإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) تقول: “ما كل ما يعرف يقال، وما كل ما يقال جاء أوانه، وما كل ما جاء أوانه حضر أهله”.

لهذا، ومع ضرورة التزام الحقيقة، والتقيد بها وعدم الخروج عنها قط، واعتماد الوثائق الرسمية المتوفرة.. فثمة حقائق، لم يحن أوانها، أو يحضر أهلها بعد، لأن المناضل الملتزم يهدف النفع العام والمصلحة الوطنية العليا في فكره وقوله وفعله، ويجب أن يوفر لمذكراته الشخصية عندما يقرر كتابتها، كل ما تحتاجه لذلك..

وكما يعرف العديد من الرفاق، فإن طبيعة الصراحة والوضوح لدي قد سببت لي متاعب كثيرة، وكانت من أسباب كره البعض وحقدهم علي، إذ يكتفي معظم المعنيين بالتلميحات العامة، حديثاً أو كتابة، التي لا تعني شيئاً أو أحداً بعينه، تجنباً للاحتكاك والعداوة، وللتهرب من المسؤولية.

ومع (سلامة) هذا الأسلوب (الدبلوماسي)، إلاّ أنه كثيراً ما يطمس الحقائق ويساهم في تضييع الجماهير، فكما يقول نيتشه: “إنني أستعرض جميع ما كتب، فلا تميل نفسي إلاّ إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه”.

وقد يكون من الصعب، غالباً، التوفيق بين الأسلوبين (خاصة وأن المذكرات تستوجب ذكر الأسماء) لإيماني بأن الوضوح هو سلاح الجماهير الضروري، وأن المعادلة في ذلك هي التساهل والتسامح في كل ما هو شخصي وخاص لأنه ملك صاحبه فقط، وعدم جواز التساهل والتسامح بما هو حق عام للوطن والأمة والحزب.. خلافاً للمعادلة (الرائجة) المعكوسة لدى البعض: رد فعل شرس إذا مست أشخاصهم ومصالحهم الذاتية، وتجاهل ولا مبالاة إذا مست القضية وكل مقدسات الأمة.

إن الكاتب والأديب والفنان عامة الذي لا يحمل مسؤوليات حزبية أو سياسية محددة، يتمتع – رغم عمق التزامه الوطني والقومي والإنساني العام بالطبع- بحرية أكبر في التعبير عما يختلج في نفسه، من أفكار وآراء ومشاعر وأحاسيس وتجارب خاصة.. إلخ، لأنه يتحمل مسؤولية نفسه فقط، بينما لا يستطيع الكاتب الحزبي المسؤول أن يفعل ذلك لأنه يميل، بفعل التزامه المحدد بالتنظيم، إلى الاصطفاء والابتعاد عن أي شيء يتوقع أنه قد يضر برفاقه وبقضيته الثورية. وهنا يعاني من التمزق بين الفنان والحزبي، لأن الثوري الحقيقي هو فنان بطبعه، ذلك أن الثورة هي الفن الأعظم والأشمل، لأنها تهدف إلى استعادة إنسانية المواطن، وبعث الأمة، وخلق حضارة قومية إنسانية جديدة، تنبثق، وتنمو، وتتفتح في إطارها كل الفنون والعلوم والإبداعات الأخرى الخلاقة، التي يصبو إليها الإنسان الحر. ولذلك، فالحرص عليها أهم من تفريغ ما في نفس المناضل -من زاوية الفنان الداخلي-  مع التضحية باحتمال (موت) بعض الآراء والمواقف التي تتعلق بهذا الشخص أو ذاك، بموت الكاتب الحزبي المطلع، لأنه لا يستطيع ذكرها، قبل الأوان، إلاّ لعدد قليل جداً من الثقاة الذين يتناقصون، هم أيضاً بفعل الموت. ولكن ما يعوض عن ذلك، هو أن معظم هذه الأمور يدخل في باب التفاصيل الشخصية، وبالتالي لا تؤثر، لحسن الحظ، في القوانين العامة التي تقر الظواهر والأحداث والتصرفات الأساسية، ولا تغير كثيراً في تلك الأحداث، وهو ما يحرص عليه هذا (الكتاب) الموثق حزبياً الذي يختلف عن (كتب المذكرات).

وفي كل الأحوال.. من الضروري أن يتكامل دور الكاتب السياسي مع دور الفنان في معالجة كافة قضايا المجتمع من جميع الجهات.

وأني سوف أحرص، جهد المستطاع، على التزام النهج الموضوعي الهادف، وتوخي الانصاف والنظرة النسبية، في إعداد هذا (الكتاب). وأعتقد أن من بين أهم ما تعلمنا إياه تجربة التاريخ والحياة أن لا نستهتر بنضال الآخرين، أو نستهين بتضحياتهم، وننكر أدوارهم؛ بل يجب حفظ أقدار المستحقين، ورفض نهج (التخوين) المبتذل والتقييمات الذاتية المزاجية السمجة، وتحميل المناضلين فوق طاقاتهم، فلكل قدراته ووعيه وعطاؤه تبعاً لذلك.

والمهم أيضاً، أن لا يصر المناضل على الاستمرار بفرض نفسه في قيادة الحركة، بعد أن يستنفذ إمكاناته القيادية، ويحاول خنق الحزب وتجميده في إطار وعيه الخاص، الذي قد يصبح قاصراً عن استيعاب الظروف والمستجدات ومواكبة التطور، بحيث يضع نفسه في مواجهة رفاقه الأكثر قدرة على التجديد وحمل الراية، ولا يضره في شيء أنه لم يستطع أن يكون القائد التاريخي المنشود.

وكما ان الأب الطبيعي يجهد لتوفير كل ما يستطيع لتأهيل أبنائه، ويبلغ قمة السعادة إذا تجاوزوه، فكذلك يجب أن تكون غبطة القائد الحقيقي الذي يجب ان يحرص على تربية أجيال المناضلين ليصبحوا أقدر على مواجهة متطلبات الكفاح المستجدة، ويعتبر نفسه في ذروة النجاح إذا استطاع تحقيق ذلك، فلا تؤخذ العملية كصراع أجيال، بل كتكامل أجيال يتمثل في التواصل واستيعاب الإيجابيات ومراكمتها وتجاوز السلبيات والأخطاء، وعدم نسف كل شيء هكذا عشوائياً والعودة للبدء من الصفر، لأن هذا أسلوب همجي، إلحادي، غير حضاري، ولا يؤدي إلاّ للعبث والعدمية، وهدر الطاقات، وتكرار إنتاج الفشل والكوارث.

فكلما اغتنت تجربة الإنسان (الطبيعي) المناضل، وتوسع إطلاعه، وتعمقت معارفه، ونضج وعيه، زاد تواضعه وتقديره للمناضلين الذين سبقوه، وأصبح أكثر ميلاً لإنصاف الآخرين دون تجاوز الحقيقة، أو المجاملة في القضايا الأساسية، لكن بدون تقزيم أو تجريح، طالما ظلت الأخطاء والنقائص والتقصير في الإطار الوطني والقومي العام، ونتيجة قصور الوعي والإمكانات والصعوبات، ولم تصل إلى حد العمالة والخيانة المتعمدة.

ومن هنا، يجب الاعتراف بفضل جميع الحزبيين الذين ساهموا في حياة وتطور الحزب منذ مراحل التبشير فالتأسيس، حتى الخلافات والافتراقات.. أو التخلي، وإعطاء كل ذي حق حقه مهما كانت الصراعات والمسالك المختلفة بعد ذلك -خاصة وأن بعضهم انتقل إلى رحمة الله- والاكتفاء بالإشارة الموضوعية إلى مكامن الخطأ والصواب، لأن ادعاء (العصمة) و(احتكار) الحقائق والفضائل والإنجازات، ونهج التعالي الفارغ المقيت، ورجم الآخرين.. لا يرفع من شأن أصحابه، أو يبرر أخطاءهم، بل يسيء إليهم أكثر مما يسيء إلى الآخرين المستهدفين.

من هذا المنطلق.. فإن إيراد بعض المواقف المختلف عليها، وموضوعات الصراع، كما جاءت في “الوثائق الحزبية المعتمدة”، والتي قد تبدو هجومية عنيفة وقاسية في بعض الأحيان، ليست من قبيل التجريح الذاتي المتعمد، بل كضرورة موضوعية وثائقية مأخوذة حرفيا، ولا يجوز تعديلها إلاّ من المؤسسات الحزبية المختصة. وهي تعبر عن مجرى الصراع داخل الحزب وخارجه، وتعكس المناخات السائدة في تلك المراحل السابقة. ولابد من ذكرها لتوضيح وجلاء الحقائق للأجيال الجديدة، والحكم على كل ذلك من خلال ما أثبتت صحته أو خطأه وقائع الحياة المتلاحقة.

وإذا كانت المذكرات تستوجب الإكثار من ذكر الأسماء، فإننا في هذا (الكتاب) سنتحاشى ذلك بقدر الإمكان حماية للرفاق الجيدين (الذين مازالوا يعيشون في ظروف خاصة صعبة)، واحتراماً لذكرى الراحلين، وتجاهلاً للسيئين والساقطين الذين لا يستحقون ذلك.

*ونحن في الحزب، نرفض التفسير (البوليسي) للتاريخ، ونهج الأحكام المسبقة، والتخوين (القَبْلِي) والجزافي للآخرين، والأسلوب الذاتي الانفعالي الذي يستخدمه البعض باتهام من يتصارعون معهم، داخل أحزابهم وخارجها، بأنهم (ولدوا) من بطون أمهاتهم موسومين بخاتم العمالة للإمبريالية.. إلخ؛ ذلك أننا، كمناضلين في حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي الذي يعتمد النهج العلمي في تحليل وفهم الواقع، ننظر إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة بتفاعلاتها وانعكاساتها الجدلية المتبادلة على البشر المعنيين، وموقع الإنسان الطبقي، ومدى وعيه، وإدراكه لمصالحه الخاصة والطبقية والقومية، ونظرته الآنية الأنانية القاصرة أو العامة البعيدة المدى، الإستراتيجية.. واستعداده- تبعاً لذلك- للتصالح مع الواقع الفاسد، والتعايش معه وتكريسه، أو رفضه ومحاربته والنضال لتغييره والاستعداد لتحمل تبعات ذلك من تضحيات ومخاطر.

وهكذا، نعتبر أن الأساس في الحكم على الاخرين، أحزاباً وأنظمة وأشخاصاً، يجب أن يكون تبعاً لأوضاعهم الطبقية، وخطهم وبرنامجهم السياسي الشامل في كافة المجالات، ونهجهم وممارساتهم العملية، ومواقفهم إزاء القضايا الطبقية والوطنية والقومية والعالمية المطروحة، مع الإشارة إلى عدم مصادرة التطور لأحد.. وكذلك احتمالات الجمود والانتكاس والردة؛ وبالتالي عدم إصدار الأحكام النهائية القاطعة ما دام الإنسان المعني على قيد الحياة، دون المراهنة -بالطبع- على أوهام  الإنسلاخات الطبقية والذاتية المفاجئة، واحتمالات تغيير البعض لمواقعهم ومواقفهم وممارستهم بـ 180 درجة، باتجاه العودة إلى خط الشعب الوطني الثوري، بعد أن أصبحوا أسرى مواقعهم النقيضة، ومكبلين بمصالحهم الطبقية البرجوازية الأنانية الجديدة، وشبكة علاقاتهم الخارجية المعادية، وارتباطاتهم بقيود مخطط التسوية-التصفوية الجارية.

*ومن الجدير بالذكر، أن مفهوم الخيانة الوطنية والقومية لم يعد يأخذ، فقط، المعنى التقليدي المبتذل المتمثل بالعمالة (الرسمية) للدوائر الأجنبية المعادية، وأن يكون مرتكبها يحمل (رقماً) في أجهزة هذه الدوائر ” كبعض المسؤولين العرب من حكام وملوك” الذين كشفت المخابرات الأمريكية عن أسمائهم علناً، منذ فترة غير بعيدة، وكونهم يتقاضون منها جرايات مالية معينة(!!!) رغم مراكزهم الكبيرة في السلطة، لسعارهم المرضي للمزيد من المال والتسلط،، وانعدام ضمائرهم وكرامتهم ومشاعرهم الوطنية.. ؛ بل إن مفهوم الخيانة يتسع لأبعاد أشمل من ذلك.. نعني الإقدام المتعمد على ارتكاب كل ما يعارض مصالح الوطن والأمة السياسية، ويضر بقضاياها القومية المقدسة، ويقود-عملياً- إلى إجهاض وضرب النهوض القومي التقدمي ومنجزاته والمشروع العربي الحضاري، ويخدم، بالتالي، مصالح التحالف الإمبريالي الصهيوني.. انطلاقاً من المصالح الطبقية الذاتية للبعض، الذين يتصورون أنها تتحقق عن هذا الطريق ولكن على حساب الوطن والشعب…

فبهذا المقياس الاستراتيجي الشامل الذي يختلف عن الأخطاء الناجمة عن قصور الوعي أو العجز، وفشل القوى الوطنية والقومية المناضلة لأسباب داخلية وخارجية عديدة متداخلة، في تحقيق المشروع العربي الحضاري ومجابهة العدو الصهيوني – الإمبريالي ودحره، رغم الالتزام القومي المخلص والإيمان الراسخ العميق، والإرادة الصادقة في تحقيق ذلك؛ فإن شرائحَ وفئاتٍ معينة من الطبقات الرجعية الإقطاعية- البرجوازية التقليدية، والجديدة المرتدة المنخرطة في عملية التسوية، التصفوية الصهيونية-الأمريكية، تدخل -واقعيا- في إطار الخيانة الوطنية والقومية، كونها بذلك (تخون) مصالح الأمة في قضية فلسطين ومجمل الصراع العربي- الصهيوني، وتسهل نهب ثروات الوطن، والهيمنة عليه، وإبقاءه في قيود التخلف والتجزئة والتبعية، وتهدد بطمس هوية ومستقبل الأمة من الأساس.

*أما بالنسبة لحزبنا، فقد أكد في “الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب“.. “أن من أبرز مميزات الحزب الثوري قدرته على النقد والنقد الذاتي، ومواجهة كل مراحل نضاله بالروح العلمية الصارمة، لمراجعة جميع المراحل والأخطاء، وتصحيح المسيرة باستمرار، إذ بدون امتلاك هذه القدرة يصير الحزب إلى الهلاك…”(8) فالنقد الذاتي لا يضر الحزب الثوري.. بل يطهره وينقيه، ويعزز ثقة الجماهير به؛ ولكن يجب عدم اللجوء إلى (جلد الذات) وخلق، أو توهم، أخطاء غير موجودة أصلاً، أو تضخيم أخطاء (عادية) واقعة،لادعاء الموضوعية وحب النقد ومجاملة (الآخرين) على حساب الحزب، أو تحميله أخطاء غيره. بل يجب وضع كل شيء في نصابه، دون مراعاة أو خجل، أو تواضع كاذب. وهذا ليس من منطلق العصبوية الحزبية الذاتية، بل التزاماً بالحقيقة، واحتراماً لنضال الحزب وإنصافاً لشهدائه (حيث لا يوجد أي حزب عربي – حتى الآن- استطاع أن يطرح نفسه بديلاً لحزب البعث، أو يتجاوزه في نظرته لقضايا الأمة الاستراتيجية…).

“… ورغم صعوبة الفصل بين الموضوعي والذاتي في أي تجربة، فإننا ونحن نتعرض لنقد تجربة الحزب بشمولية لابد أن نضع هذه العوامل في سياقها وحجمها الطبيعيين متوخين الموضوعية والدقة ومواجهة الحقيقة مهما بلغت قسوتها، وكذلك المنهج العلمي في إنجازها. وبالاستناد إلى هذا المنهج سنتعرض إلى جميع الجوانب الذاتية والموضوعية في هذه التجربة متجنبين الوقوع في النرجسية، أو في النزعة الهروبية وجلد النفس.. مع التأكيد على أن مساهمة جميع الرفاق، وكذلك أصدقاء الحزب من القوى التقدمية الأخرى وجماهير الحزب، تظل مسألة أساسية كحق وواجب في تصحيح الجوانب الخاطئة وإغناء وتعميق هذا التقييم”(9).

…” وإن اعتمادنا على المنهج العلمي في تقييم التجربة يعني وضعها في إطارها التاريخي عبر مراحل التطور الواقعية الملموسة، التي عاشت ونمت خلالها، وتفاعلت مع أحداثها ومعطياتها المتشابكة أيديولوجياً، تنظيمياً، نضالياً، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية السائدة في تلك المراحل، في ساحات تواجد ونضال الحزب، وعلى المستوى القومي خاصة، وفي الإطار العالمي بصورة عامة… فتجربة الحزب وحياته النضالية لا يمكن ان نحكم عليها من خلال المثال النظري المجرد، ولكن نحكم عليها بما كان يمكن أن يتحقق ضمن نفس الظروف الملموسة، ومن خلال بنية الحزب ووعيه وحركة تطوره، وكذلك بالمقارنة مع بقية فصائل حركة الثورة العربية”.

…”ونود أن نؤكد أننا عندما نلجأ لبعض المقارنات فإننا لا نقصد التشهير والإساءة لأية قوة وطنية، ولا ننطلق من العصبوية والدوافع الحزبية الذاتية، وإنما للاستعانة بذلك لتوضيح بعض القضايا الأساسية في نشأة، وتكوين، ومراحل نضال الحزب وحركة التحرر العربي بصورة عامة.. خاصة وأن معظم هذه القوى التي تطور منها بصورة خاصة، كبعض الأحزاب الشيوعية، وبعض فصائل حركة القوميين العرب، قد مارس عملية نقد ذاتي جريئة وإيجابية لمراحل تجربته الخاصة، ومواقفه الخاطئة إزاء بعض القضايا الأساسية لحركة التحرر العربي المعاصرة، وهذا بالنسبة لحزبنا يعتبر مصدر اعتزاز وترحيب عظيمين، لأنه شكل، ويشكل، مكسباً كبيراً وقوة دافعة هامة وجديدة على طريق بلورة وتقارب مفاهيم فصائل حركة التحرر العربي الأساسية.. وتوحيد أداة الثورة العربية المنشودة.

…كما أنه لا يمكن، وليس من حق أية قوة، أن تحتكر لنفسها حق التطور والتجدد والتحول باتجاه الحزب الثوري، وأن تصادر هذا الحق بالنسبة لحزبنا، أو أي حركة سياسية تقدمية أخرى… (10).

وإننا إذ نحرص على تقييم تجربة حزبنا بموضوعية وإنصاف، بوضعها ضمن ظروفها الخاصة والعامة، وإطارها التاريخي، ومجمل الأوضاع الداخلية والعربية والدولية المتداخلة، فإننا نتوجه بذلك إلى الشباب والأجيال الجديدة عامة التي لم تعايش تلك المراحل، أو ولدت بعدها، حيث جرى تركيز فظيع لفصلها عن كل شيء سوى الواقع الفاسد القائم الذي (اعتقلتها) الأنظمة في إطاره، وعملت على إعادة صياغتها (وبرمجتها) كالآلات والمعلبات المحشوة بصورة النظام وما يريده فقط. وهذه مهمة كبيرة جداً لمواجهة أخطر نهج تخريبي (منهجي) لهذه الأجيال يفوق – بما لا يقاس- كل التخريبات البنيوية والمادية الأخرى المروعة التي يمكن إصلاحها – على صعوبته الفائقة- نسبة لتخريب الأجيال.

… ذلك “أن أطرافاً أخرى عديدة معادية للحزب، وأحياناً لا يخلو الأمر أيضاً من وجود بعض الأطراف (الصديقة)، تحاول طمس تجربة الحزب المضيئة، وإهالة التراب على تاريخه النضالي المشرف، كما تحاول ان تضعه في كيس واحد مع المرتدين الفاشيين الذين انقلبوا عليه، ونسفوا إستراتيجيته، ودمروا منجزاته التقدمية، ويتمسحون باسمه لتلويثه والقضاء عليه في قلوب الجماهير، وفي ربطه بنظامهم البرجوازي الطفيلي الفاشي الفاسد (…) كما يحاول البعض الآخر (…) ربطه كنشأة، وتكوين، وواقع، ومستقبل، بحزب النظام العراقي الحالي (قبل احتلال العراق الكارثي).. وغيره من الفصائل التي تحمل اسم (البعث).

وكل ذلك بغية اعتبار الحزب “ككل” ظاهرة مرضية خطيرة في تاريخ وحياة الأمة، ومصادرة حق مناضليه في الحياة والتطور والتجذير والوصول عبر تراكماته النضالية المتواصلة إلى ما يصبوا إليه جميع أبنائه المخلصين وجماهيره الكادحة بأن يتحول إلى الحزب الثوري من طراز جديد (11).

ونحن، رغم ذلك، ندافع عن حزب البعث العربي الاشتراكي عامة، في منبعه وتياره الأساسي المشترك، واستمراريته الجذرية الديمقراطية، كحزب ثوري معبر عن مشروع الأمة الحضاري، كونه كان سباقاً في بلورة أهدافها وتجسيدها في تنظيم قومي تجاوز كل ما عداه. ولا ينتقص من هذا الدور، والسبق التاريخي، ما عاشه الحزب من صراعات وتمزقات وانتكاسات وانحرافات، إذ لا تزال منطلقاته هي الأصح، والأعمق، والأشمل، والأصلح لنهوض هذه الأمة. ولا يزال تياره اليساري (الذي أصبح يحمل اسم: حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي منذ المؤتمر القومي الحادي عشر 1980) ملتزماً بهذه المنطلقات، وأميناً على جوهر مقومات الحزب وتراثه الثوري، ومواصلاً رفع رايته الأصيلة، بغض النظر عن ادعاء هذا الطرف أو ذاك باحتكار “البعث” وشرعيته التاريخية، أو الغوص في الصراعات غير المجدية حول ذلك..

وهي الظواهر التي عانت منها، ولا تزال، جميع الأحزاب السياسية، وحتى الحركات الدينية المعروفة في العالم بأسره.

وفي الوقت ذاته يجب الرد على أولئك الحاقدين على حزبنا، وخطه القومي المبدئي الثوري، الذي يفترون عليه -كذباً- حتى الان، رغم تأكد صحة هذا الخط، والانهيار الشامل المريع الذي انحدرت إليه الأوضاع العربية، بعد ضربه، وقيام الردة في سوريا ومصر؟… وهذا هو موقف الطبقات العربية الحاكمة المنخرطة في عملية التسوية- التصفوية من الحزب، وكذلك مواقف أجهزتها وأتباعها المباشرين؛ وهو موقف (طبيعي) ومفهوم، ولا يدعو للاستغراب. أما المدهش حقاً، فهو تجني وظلم وعدم انصاف (بعض) الذين يُحسبون على الخط الوطني والقومي، الذين يشاركون في عملية العزل والتشويه والاختلاق، مستغلين الحصار المضروب على الحزب، وعدم تمكننا من وسائل الرد والتوضيح، ومنعنا بفعل “ﭬﻳﺗﻭ” بعض الأنظمة والجهات المعروفة من المشاركة في اللقاءات السياسية والثقافية للتعريف بقضيتنا ووجهة نظر حزبنا بالأحداث؛ مع التذكير بنسف عملاء النظام السوري لمؤسسة (الراية) الإعلامية، التي كان يملكها الحزب في بيروت، واستشهاد أحد عمالها، ثم اغتصابها بعد احتلال لبنان، وأخيراً إجبار من تبقى من حملة (أسهمها) من الرفاق الحزبيين على التنازل عنها، واستكمال الاستيلاء عليها (رسمياً)، وبالطبع عدم قدرة جريدة “الديمقراطي” المركزية المحدودة التي يصدرها الحزب على تعويض ذلك المنبر الإعلامي العلني المذكور.

ومن المؤسف، أن (البعض) لا يرى من القصر الرائع سوى “بلوعته” (التي لابد منها) فيتجه إليها بأنفه مباشرة، كما لا يرى من تمثال “فينوس” -على سبيل المثال- سوى (عورتها) (الطبيعية أيضاً). هذه نظرة جزئية، سلبية، مشوهة، مريضة، خلافاً للنظرة الكلية الشمولية للكائنات والوقائع والأحداث والإنسان أساساً، التي تتجه إلى جوهره ومحصلة وجوده وممارساته وقيمته في هذه الحياة.

فالرد، والحالة هذه، كما كررنا مراراً، هو في سياق واجب توضيح الحقائق للأجيال العربية المضللة النقية، التي تتحمل مسؤولية تغيير الواقع الحالي الفاسد، واستعادة النهوض القومي الديمقراطي الجديد.

*وقد يكون من المفيد أن نطرح في هذه المقدمة، بعض الموضوعات التي واجهت تجربة حزبنا في السلطة، والتي كان بعضها من جملة مسائل الخلاف بين يسار ويمين الحزب، كما سنلاحظ في سياق تعرضنا لهذه التجربة، كما واجهت معظم التجارب التقدمية في وطننا العربي، التي منيت، هي أيضاً، بالردة والانتكاس، ومازالت تواجهنا جميعاً في المستقبل؛ وذلك بغية إنارة الاهتمام بها والدعوة إلى التعمق في دراستها والحوار حولها، والعمل على تكامل حصائل تصور الفصائل الوطنية الديمقراطية العربية لها، كمسائل: الثورة في قطر عربي واحد.. الانقلاب والثورة.. الدولة والثورة.. الزمن وحرق المراحل.. النظرية والتطبيق.. الإستراتيجية والتكتيك والغاية والوسيلة.. موازين القوى.. القيادة الجماعية والتفرد…إلخ..

وكذلك الحال بالنسبة للثوابت المبدئية والأهداف الأساسية التي يؤمن بها حزبنا ومعظم الفصائل القومية الديمقراطية في وطننا العربي، وفي مقدمتها: الوحدة، والحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، (التي يرى حزبنا ان تجسيدها الحقيقي الأمثل في النظام الاشتراكي)، وتحرير الأجزاء المغتصبة من وطننا العربي ومحورها (فلسطين)، والتنمية الوطنية- القومية التقدمية المستقلة، والموقف من التناقض الرئيسي المعادي المتمثل بالتحالف الإمبريالي الصهيوني وأتباعه من الرجعيين.. إلخ؛ تلك الثوابت التي يجب أن تشكل بوصلة النضال العربي المعاصر.

وبما أن هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق تلقائياً، بل لازالت تواجه الفشل والتعثر حتى الآن، فمن واجب جميع القوى الحية في هذه الأمة أن تبادر إلى البحث العلمي الجدي المثابر، والحوار العقلاني الديمقراطي المثمر، للوصول بما يكون محل قبول أكثرية جماهير الأمة، وتوافق معظم – إن لم يكن جميع- قواها الحية؛ علماً أن هذه الأهداف، التي تعني وجود ومستقبل الوطن والأمة، تعتبر من (المحرمات) بالنسبة للتحالف الإمبريالي الصهيوني، وخاصة: الوحدة العربية، تحرير فلسطين ووجود (إسرائيل)، البترول واستخدام ثروات الوطن العربي الطبيعية في تنمية وتقدم الأمة، التي كان الاقتراب منها – ولا يزال- محل المؤامرات المتواصلة والعدوان المسلح المباشر على الوطن العربي.

ولقد ناضل حزبنا بإخلاص وصدق، وإيمان راسخ بحق الأمة في التحرر والوحدة والتقدم، ضمن مستوى وعيه وظروفه المتداخلة المحيطة؛ وان عدم نجاحه، وكذلك عدم نجاح بقية القوى القومية التقدمية الأخرى في استكمال تحقيق هذه الهداف لا يعني عدم صحتها، بل إن تحقيقها قد يحتاج لأكثر من جيل وأكثر من محاولة، إذ لا بديل لوحدة هذه الأمة، وتحررها، وتقدمها، وإنهاض مشروعها الحضاري المعاصر. ولذلك لا يجوز الخلط والتشكيك بالأهداف ذاتها بأي حال، بل البحث عن أسباب الفشل لتفاديها لاحقاً، والاستفادة من الإنجازات والتراكمات الإيجابية في مواصلة الكفاح الشامل لتحقيق هذه الأهداف.

*إن هذه المسائل الكبرى المطروحة علينا جميعاً تبدو متداخلة في العديد من الجوانب. ومع ذلك، ولمزيد من التوضيح سنتعرض لبعضها بعناوين خاصة في هذه المقدمة، كما سيرد الحديث عن البعض الآخر في سياق فصول الكتاب الأخرى:

* واقع التجزئة، وإمكانية الثورة في قطر عربي واحد:

لا نقصد هنا بالثورة تلك التي تقتصر على الكفاح المسلح ضد الاستعمار المباشر أو الثورة التحررية لتحقيق الاستقلال الوطني، فقط.. بل الثورة بمفهومها الشامل: السياسي- الاقتصادي-الاجتماعي- الثقافي، الذي يعني تحقيق نقلة نوعية جديدة في حياة المجتمع المعني.

وبالنسبة لوطننا العربي بالذات، تعني الثورة القومية- الديمقراطية الاشتراكية، المتداخلة، التي تحمل رسالة الأمة في تحقيق مشروعها التحرري – الوحدوي – الديمقراطي – الاشتراكي الإنساني المعاصر. ومن هنا، فلا يقتصر مفهوم الثورة في وطننا العربي، على مجرد انتقال السلطة –فوقياً- من شريحة طبقية إلى اخرى، أو حتى من نظام ملكي إلى نظام جمهوري (على أهمية ذلك) خاصة، إذا تم التغيير بأسلوب الانقلابات العسكرية فقط، وليس عبر حركة شعبية ثورية منظمة؛ إذ سرعان ما يتحول الأمر -غالباً- إلى انظمة عسكرية ديكتاتورية بديلة قد تكون أشد قسوة من الأنظمة السابقة (كما سنبين لاحقاً).

إن الثورة العربية التي نقترح دراسة إمكانية انطلاقها من قطر عربي واحد، في جدليتها مع البعد القومي الوحدوي، هي الإشكالية الأساسية المطروحة علينا، والتي واجهتها – بشكل أو بآخر- محاولات وتجارب أمتنا (الثورية) حتى الآن.

ونذكّر -بهذه المناسبة- بالصراع المعروف الذي دار قبيل وإبان وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، حول إمكانية قيام وتطبيق واستمرار الثورة الاشتراكية في بلد واحد فقط ( كالإمبراطورية الروسية الشاسعة) أم لابد لها أن تقوم – كي تحيا وتنجح وتستمر- في أكثر من بلد أوروبي واحد، إن لم تعم أوروبا بأسرها…فكيف بنا ونحن نتكلم عن الثورة في قطر واحد من وطننا العربي المجزأ؟ علماً أن ظروف الأمة العربية تستدعي قيام الثورة لتحقيق أهدافها القومية الديمقراطية الوحدوية.. كما سنرى عند الحديث عن (حركة 23 شباط/ فبراير 1966). وإذا سلمنا أنه لا يمكن لهذه الثورة، أن تنطلق في جميع أقطار الوطن العربي في وقت واحد، تبعاً لتفاوت نضج الظروف الموضوعية والذاتية في كل قطر؛ وقد تبدأ من قطر معين تكون ظروفه أكثر نضجاً لذلك- كما بدأت معظم الرسالات والثورات الكبرى- من مجموعات طليعية قليلة جسدت روح الجماهير وعبرت عن تطلعاتها، وواصلت نضالها في نشر وتعميم أفكارها وتجنيد الجماهير في مجراها حتى النصر.

حدث هذا في ماضي وتراث أمتنا الرسالي والثوري وتجارب الشعوب الأخرى الثورية، ولا زال يبدو صحيحاً من الناحية النظرية، وممكن الحدوث من الناحية العملية. وقد حاول حزبنا، منذ تأسيسه، النهوض بهذه المهمة، التي ولد أصلاً من أجلها، بوضع إستراتيجية عربية شاملة تتصدى لواقع التجزئة والتخلف، عبر إنشاء تنظيمه القومي ومعالجة هذه الإشكالية المعقدة، بتشكيل “البؤر الثورية” حيثما تتواجد منظماته في أقطار الوطن العربي، وخاصة بعد طرح إستراتيجية حرب التحرير الشعبية لمواجهة العدوان الصهيوني الإمبريالي وتحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية عبر “لقاء القوى التقدمية العربية” من خلال، وفي مجرى، معركة التحرير والتوحيد القومي، الأمر الذي لم يتمكن من تحقيقه، لأسباب وعوامل وظروف عديدة متداخلة، كما سنرى في الفصول الخاصة بذلك.

– وهكذا، أكدت التجربة التاريخية المعاشة – حتى الآن- عدم قدرة أي قطر عربي بمفرده، تحقيق أهداف الثورة القومية الديمقراطية (ومن أهمها الوحدة، وتحرير فلسطين) – ناهيكم عن أهداف المرحلة الاشتراكية – لعدم توفر القاعدة المادية والتقنية اللازمة لذلك، بل وعدم قدرة الوحدة ذاتها (التي تقوم بين قطرين مثلاً: كالوحدة السورية- المصرية) أن تحقق ذلك، إذا كانت تفتقر إلى المضمون الديمقراطي الشعبي الحقيقي.

وقد وصل الأمر، في عصر الانحطاط الحالي، إلى عدم تمكن أي نظام من المحافظة، حتى على السيادة والاستقلال الوطني في القطر الواحد.

إذن ما هو الحل؟ وكيف يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة في وطننا العربي المجزأ، الذي يرتبط وجوده ومصيره وتقدمه الحضاري بتحقق وحدته القومية؟ هل تؤجل الثورة القومية الديمقراطية، إذا ما توفرت ظروفها في قطر عربي ما – مثلاً-؟ أم تبدأ هكذا – منفردة- لتواجه التطويق والتآمر وعمليات الخنق والإرباك والإجهاض؟.. خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفكك الاتحاد السوفياتي الصديق.

ورغم عدم توفر أدلة ملموسة – حالياً- على احتمال قيام ثورة شعبية منظمة في المدى المنظور، تتبنى المشروع العربي الحضاري، فإن المسألة مطروحة على كافة فصائل العمل القومي. وكمساهمة (من حزبنا)، نرى أن المسألة تحتاج إلى تحضير جدي مسبق يتناول كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في الأقطار العربية المعنية أي المرشحة – موضوعياً وذاتياً- أكثر من غيرها، لتشكيل النواة الوحدوية الأولى. ونقصد هنا: مصر وسوريا والعراق** – على الخصوص- بحيث يتم وضع الدراسات العلمية الجاهزة لكل النواحي المذكورة، وما يمكن تطبيقه منها فور قيام الوحدة، وما يحتاج للتدرج… وهكذا، بحيث يمكن إعلان الوحدة بين الأقطار الثلاثة المذكورة، أو بين من يتهيأ منها قبل غيره، فور توفر ذلك – سواء بقيام ثورة فيه، أو تغيير ديمقراطي سلمي إن أمكن ذلك- بحيث يمكن مفاجأة العدو، واختراق أبرز (المحرمات) الكبرى بالنسبة له (نعني الوحدة).. من جهة؛ وكذلك قيام هذه الوحدة (الفورية) على قاعدة مدروسة، ومعدة سلفاً، بما يجنبها الارتجال والعفوية والانفعال والفوقية، فالتخبط واحتمالات الانتكاس المدمر الذي لا يجوز أن يقع بأي حال.

وبالتزامن مع كل ما ذكرناه، وبعلاقة جدلية معه، نرى ضورة قيام جبهات وطنية ديمقراطية في كل الأقطار المهيأة لذلك؛ ومؤتمر شعبي عربي -مستقل عن الأنظمة- يضم كل القوى الحية في الوطن العربي، التي تتبنى الوحدة في برامجها السياسية، يضع إستراتيجية وحدوية ديمقراطية تقدمية شاملة، وتنبثق عنه جبهة قومية ديمقراطية موحدة، تتولى نشر الوعي الوحدوي بين الجماهير، وقيادة نضالها، وتثقيف مناضليها بذلك، وتنسيق الجهود وفقاً لظروف كل ساحة ومتطلباتها المرحلية على طريق تنفيذ هذه الإستراتيجية… بحيث تكون القوى السياسية الوحدوية معبأة، والجماهير العربية مهيأة، لدعم القاعدة الوحدوية الأولى وحمايتها وتوسيعها إلى الأقطار المؤهلة تباعا.

وبالطبع، من الأفضل أن تكون البداية من مصر: القطر الأكبر، والأهم،  كمرجعية قومية، وكقاعدة ومنطلق (قادرة على الصمود ولو مؤقتاً) ريثما يتم توحيد الأقطار الثلاثة أساساً، أو يمكن -في حال توفر ظروف مناسبة- البدء بقيام وحدة سورية-عراقية، كقاعدة ومنطلق مؤقت أيضاً لتحقيق الوحدة الثلاثية المذكورة، لأن مصر تمثل العمود الفقري لجناحي الوطن العربي في المشرق والمغرب، ولا غنى عنها في أي عمل وحدوي حقيقي قابل للحياة والتطور ليشمل الأمة العربية بأسرها.

– وكما أن الرحم المفتوح يتعرض للإجهاضات المتكررة ويحتاج، في هذه الحالة، إلى عملية تطويق مؤقتة، لعنقه، ريثما تتم الولادة؛ فإن الثورة في سورية بالذات، تواجه صعوبات كبيرة، كون حدودها مهددة من جهتين أجنبيتين معاديتين هما (إسرائيل) وتركيا من جهة، ومفتوحة على العراق ولبنان والأردن، بأنظمتها الغارقة في الخلافات والصراعات، من جهة ثانية (إذا استمرت الأوضاع في التردي القائم). وهي بالتالي معرضة لمخاطر من الصعب مواجهتها، وجنينها الثوري معرض لاحتمالات الإجهاض ما لم يولد في حضن الوحدة الجاهز لذلك، إذ حتى لو انغلقت على نفسها: فستواجه الاختناق في هذه الحالة، وخاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي الصديق -كما ذكرنا- الذي كان وجوده يحد من احتمالات التدخلات الخارجية المعادية.

ولذلك، ولظروف تاريخية معروفة، فإن الشعب العربي في سورية أكثر تطلعاً للوحدة العربية، واستعداداً لها ونضالاً من أجل تحقيقها.

وكذلك، يجب الإشارة، إلى أن وصول (أقلية ثورية) إلى السلطة، يحمل مخاطر الفشل، بدون توفر القاعدة الشعبية العريضة اللازمة لاستقرار وحماية النظام الجديد.. فحتى ثورة أكتوبر ذاتها التي كان الحزب البلشفي الذي فجرها وقادها، أقلية في البداية، حيث اضطر لينين وتروتسكي ورفاقهما للاعتماد على الجيش وبحارة لينينغراد (والباخرة أوروا المعروفة) وعمال المصانع الكبرى في لينينغراد أساساً، حيث كان مؤتمر الفلاحين إذ ذاك، بأكثريته الساحقة إلى جانب الأحزاب الأخرى، قبل أن يتحول تدريجياً لصالح البلاشفة. ولعل ذلك من أسباب الصعوبات والمشاكل والتعثرات اللاحقة التي عرفتها تلك الثورة. وهنا، كان الاعتماد على البرنامج الثوري المطروح، الذي يعبر عن مصالح أكثرية الجماهير الواسعة والمراهنة بذلك، على كسبها تدريجياً (كتأميم الأرض، والسلم، وسلطة السوفيتات “العمال والجنود والفلاحين” ..إلخ) في الاتحاد السوفياتي. علماً، أن سائر الرسالات والحركات الثورية في العالم، بدأت -كما ذكرنا- بطلائع قليلة، وتطورت بكسب المزيد من الأنصار حتى تحققت لها السيادة.

ولكن، وفي ظل الظروف العربية والدولية الراهنة، يبدو لنا أن قيام أوضاع وطنية ديمقراطية وحدوية، في الأقطار المعنية، عن طريق الانتخابات الديمقراطية الحرة، إن أمكن ذلك مستقبلاً، هو الأسلوب الأفضل لتحضير هذه الأقطار للعمل الوحدوي المطلوب القادر على الصمود والتطور.

– وختاماً، يجب أن يكون واضحاً، بما لا يدع أي مجال للشك، أن عدم إمكانية تحقيق الاشتراكية الكاملة في قطر عربي واحد فقط، لا يعني بأي حال، التجمد في (المرحلة الرأسمالية) أو اختيار الطريق الرأسمالي أصلاً؛ فالعلاقة جدلية بين الوحدة والاشتراكية، بحيث لا يمكن فصل الوحدة في عصرنا الراهن عن مضمونها الشعبي الديمقراطي الاشتراكي، فلقد عجزت البرجوازيات العربية عن تحقيق الثورة القومية الديمقراطية، وكذلك البرجوازية الصغيرة، التي مضت فيها اشواطاً معينة ومبشرة.. ثم توقفت وانتكست بفعل سيطرة أجنحتها اليمينية المرتدة- كما سنبين لاحقاً- وهكذا أصبحت هذه المهام القومية -الديمقراطية- الاشتراكية المتداخلة ملقاة على عاتق تحالف العمال والفلاحين وطلائعها الثورية والجماهير الكادحة عموماً، مع بعض شرائح البرجوازية الوطنية المنتجة.

وبما أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التقدمية والاشتراكية، كالإصلاح الزراعي الجذري، وتأميم المؤسسات البرجوازية الكبيرة، وإنشاء قطاع عام إستراتيجي مسير ديمقراطياً، وديمقراطية التعليم، والتنمية الوطنية- القومية الحديثة المستقلة.. تجرد القوى الانفصالية الرجعية الإقطاعية والبرجوازية الكبيرة التابعة من قاعدتها المادية وسلاحها الاقتصادي ونفوذها السياسي، وتزيحها من طريق الوحدة؛ كما تزيد من أعداد ونوعية ووعي الطبقة العاملة والفلاحين، وبالتالي تحرر هذه الجماهير الكادحة وتسهل عليها المضي قدماً نحو الوحدة.. فهذه التحولات المطلوبة والملحة، حيثما أمكن ذلك في أي قطر عربي، تعتبر في الوقت ذاته طريقاً للوحدة، ودافعاً لها، ومعجلاً في قيامها، ثم حمايتها… وليست بديلاً لها بأي حال كما يتوهم البعض أو يتجاهل البعض الآخر.

هوامش:

*   حبذا لو تتاح لحزبنا الظروف المناسبة لتحقيق قرار (المؤتمر القومي الثامن 1965) الذي نص على (توصية بفتح سجل لشهداء الحزب في كافة الأقطار العربية).

**  ملاحظة: وضعنا هذه المقدمة قبل احتلال العراق، الذي لابد من كنسه بالمقاومة الوطنية الباسلة.

1- (…) «يرجى دراسة اقتراح إصدار كتاب عن حركة 23 شباط (أسبابها- مبرراتها- إنجازاتها- سياساتها المختلفة…إلخ، والانقلاب الذي جرى عليها: أهدافه وأبعاده…إلخ)، لقد أصبح هذا الموضوع ملِّحاً إلى أبعد الحدود، إذ شوهت وجهة نظرنا من جهات متعددة معروفة لكم، واتهمنا بأسوأ الاتهامات من الخيانة الوطنية إلى سوء الأخلاق والسلوك…إلخ،  ويضطر الكتاب والمؤرخون والدارسون إلى الأخذ بها لخلوِّ المكتبات من اي مصدر آخر.. وهكذا تتربى الأجيال المتعاقبة على حمل أسوأ الانطباعات عن فترة حكم الحزب بعد 23 شباط. وكذلك عن اشخاصنا.

وكاقتراح يمكن أن يكون هذا الكتب على شكل مذكرات، وأنسب رفيق لهذه المهمة هو الرفيق إبراهيم ماخوس، باعتباره كان وزيراً للخارجية وكشخص معروف على كل صعيد، بما يضمن رواج الكتاب وتوزيعه على نطاق واسع. ونعتقد ان الظرف الحالي مناسب جداً أكثر من أي وقت مضى.

يرجى الاهتمام بهذا الاقتراح مهما كانت مشاغلكم».

أوائل حزيران 1979

“رفاقكم”

= توضع الصورة الرسالة كما جاءت هنا

2)- راجع “دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب”، 4 أجزاء، الصادرة عن المؤتمر القومي الحادي عشر/ صيف 1980.

3)-“مقررات المؤتمر القومي التاسع” المنعقد في النصف الثاني من أيلول 1966، الصفحة (100) و(121).

4)- راجع مؤتمرات الحزب القومية “نضال البعث”:

– المؤتمر التأسيسي الأول “7 نيسان 1947”.

– المؤتمر القومي الثاني “حزيران 1954”.

– المؤتمر القومي الثالث “آب- أيلول 1959”.

– المؤتمر القومي الرابع “آب 1960”.

– المؤتمر القومي الخامس “أيار 1962”.

– المؤتمر القومي السادس “تشرين الأول 1963”.

– المؤتمر القومي السابع “شباط 1964”.

– المؤتمر القومي الثامن “نيسان 1965”.

5)- المؤتمرات القومية بعد حركة 23 شباط 1966.

– المؤتمر القومي التاسع “أيلول 1966”.

– المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي “أيلول 1967”.

– المؤتمر القومي العاشر “أواخر أيلول 1968”.

– المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي “بين 30-10 و12-11 / 1970”

6)- الوثائق الصادرة بعد الردة التشرينية 1970:

أدبيات ووثائق القيادة القومية “المجلس الاستشاري القومي” (دورتان) + اللجنة المركزية القومية المؤقتة (3 دورات)+ ثم المؤتمر القومي الحادي عشر /صيف 1980/ + دورات اللجنة المركزية القومية المنبثقة عنه (10 دورات)+ دورات مكتبها السياسي القومي…إلخ..

7)- بالنسبة للوثائق التي تقرر تقديمها  إلى المؤتمر القومي الحادي عشر وهي “التقرير السياسي+ التقرير الفكري+ النظام الداخلي+ نقد وتقييم تجربة الحزب بالذات” حاولت القيادة القومية و”اللجنة التحضيرية للمؤتمر” إشراك الجهاز الحزبي بقدر المستطاع، وما تسمح به الظروف الأمنية القاسية المعروفة، بطلب مساهمات أولية من منظمات الحزب القومي.. ليستفاد منها في إعداد تلك المشاريع.. التي تعاد للمنظمات لدراستها وإغنائها.. ثم تناقش ثانية في “اللجان” المختصة.. وتقدم للقيادة القومية.. للبت بها ووضعها في صيغتها النهائية التي تقدم للمؤتمر.. وذلك لتحقيق أوسع وأعمق مشاركة ديمقراطية ممكنة في وثائق المؤتمر خاصة وأن ظروف العمل السري القاهرة لم تكن تسمح – مع الأسف- بحضور عدد كبير من الرفاق المندوبين.. لحضور المؤتمر الذي عقد خارج الوطن العربي…

وقد رأت القيادة القومية، إذ ذاك، أن تكلفني وحدي بحكم اطلاعي ومشاركتي من موقعي السابق في قيادة  الحزب والسلطة بإعداد مشروع تلك “الدراسة” وفق “هيكل مشروع أولي حول نقد وتقييم تجربة الحزب” الذي قدمته لها ووافقت عليه.. وخضع كما ذكرنا –لآليات التشاور والتفاعل والمشاركة الديمقراطية المتاحة مع الرفاق القياديين المعنيين خاصة، والجهاز الحزبي عامة.. لأن دراسة تجربة الحزب، “والعوامل وللأسباب الأساسية التي أدت إلى سقوط سلطة الحزب كانت من المسائل التي تكتسي أهمية استثنائية بالنسبة لاستمرار عمل الحزب وتماسكه ووحدته القومية.. ومستقبل مسيرته النضالية…

ويجب التأكيد على دور الرفاق أعضاء المؤتمر وخاصة “لجنة التجربة” ثم الرفاق أعضاء الجنة المركزية القومية ومكتبها السياسي..  في دراسة ذلك المشروع وتدقيقه وإدخال التعديلات التي أقرت عليه.. ووضعه في صيغته النهائية.

وهكذا: وأرى من الواجب أن أذكر للأمانة التاريخية أن بعض الرفاق.. قد ساهموا بدرجات متفاوتة.. وفي مراحل زمنية معينة جزئياً، وكلياً، في بعض، أو جميع تلك الوثائق التي صدرت بعد الردة التشرينية /1970/.. وبغض النظر عن مواقفهم الحالية (بحيث تخلى بعضهم أو سقط) واصبح خارج الحزب بينما استمر المناضلون الآخرون (في اللجنة المركزية القومية والمكتب السياسي القومي)

8)- “دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب” الجزء الأول/ ص 13.

9)-المصدر ذاته، ص 15.

10)- المصدر ذاته ص ص 16-17.

11)- المصدر ذاته ص 16.

عن ابراهيم معروف

شاهد أيضاً

مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس – الحلقة العاشرة -

لمحة موجزة عن نضال الحزبمنذ المؤتمر التأسيسي 1947- وحتى الوحدة 1958(1) نضال الحزب في الساحة …