مدخل تاريخي
لقد ذكرنا في المقدمة أن هذا (الكتاب) يأتي استجابة لتوصية الرفاق المعتقلين، بغية التركيز على تجربة الحزب (منذ حركة 23 شباط 1966 وحتى الردة 13 تشرين الثاني 1970).. وبما ان هذه المرحلة تشكل جزءاً أساسياً هاماً لا ينفصل عن سياق المراحل السابقة.. لذلك، لابد من “مدخل تاريخي” موجز، بقدر الإمكان، وصولاً إلى هذه الحركة.. بما يساعد على فهمها، ويضعها في إطارها الحقيقي من حياة الحزب.
ولقد اعدت مراجعة جميع الوثائق الحزبية المتوفرة لدي.. متمثلة بتقارير وقرارات المؤتمرات القومية أساساً، وبعض المؤتمرات القطرية السورية والعراقية المتاحة، لإنعاش ذاكرتي، وتجنيد معلوماتي، وتمثل أفضل للتجربة بمراحلها، تبعاً لظروفها الزمانية والمكانية الخاصة، والمعطيات الموضوعية في كل مرحلة. وعلى ضوء وعيي الحالي أيضاً، واستناداً إلى “الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب” الأكثر شمولاً (التي كلفتني القيادة القومية بأعدادها كما ذكرنا) والمعتمدة من المؤتمر القومي الحادي عشر صيف 1980 واللجنة المركزية القومية ومكتبها السياسي القومي اللذين كلفهما باستكمال ذلك، بحيث جاءت كمحاولة أولى من نوعها، حتى الآن، فيما نعلم.
ولذلك نجدد اقتراحنا بضرورة العودة إلى مطالعتها، لوضع هذا (الكتاب) في سياقه المتكامل، إذ لا يمكن فهمه جيداً، باجتزائه منها لأن المراحل مترابطة. وهو في معظمه تلخيص لبعض فصول تلك “الدراسة…” بهدف تسهيل انتشارها وقراءتها – حسب توصية الرفيق الشهيد أبو اسامة ورفاقه المعتقلين، وهي لم تترك لي إلاّ القليل مما يمكن أن أضيفه سوى توسيع بعض النقاط بذكر بعض الوقائع المعاشة، وإغنائها – اعتماداً على الذاكرة – بمضامين عدد من اللقاءات والاجتماعات الحزبية والعربية والدولية.. التي قد تساعد على توضيح أكثر للأحداث والموضوعات المطروحة، ومجمل الظروف المحيطة في تلك المرحلة.
ومما يزيد مهمتنا صعوبة، هو عدم وجود (كتاب معتمد) عن تاريخ الحزب، رغم قرارات المؤتمرات الحزبية المتلاحقة بهذا الصدد، قبل وخلال وجود الحزب في السلطة، وعدم تنفيذها لعدم توفر الظروف المناسبة (المستقرة)، وتسمية هيئة متفرغة مؤهلة وقادرة على ذلك*، واستغراق الحزب في المهام الأخرى:
*1-المؤتمر القومي الثامن/نيسان 1965/ “نضال الحزب عبر مؤتمراته القومية (ص 26)” قرر بهذا الصدد ما يلي:
(…) ثالثاً: على صعيد عقيدة الحزب:
- حول التقرير العقائدي… (لدراسة وإغناء المنطلقات النظرية المعتمدة رسمياً.. وعرض ذلك على مؤتمر قادم)…
- حول دستور الحزب.. (دراسة ومراجعة).
- يقرر المؤتمر القومي الثامن تكليف القيادة القومية المقبلة بوضع تاريخ الحزب على أن يعرض على المؤتمر القومي المقبل.. إلخ. (لم ينفذ)..
2-المؤتمر القومي التاسع /أيلول 1966/ القرار رقم (6) ص 119:
يقرر المؤتمر القومي التاسع بأن على القيادة القومية الجديدة، تشكيل لجنة مهمتها تدوين تاريخ الحزب ونضاله، وإعادة تقييم تجربة الوحدة، وحكم الحزب في العراق، وتحديد المسؤولية في نكسة /18 تشرين الثاني 1963/ ودراسة الظواهر الانقسامية الانفصالية التي عاناها الحزب في فروعه في الوطن العربي… على أن يقدم تقييم حكم الحزب في العراق ونكسة 18 تشرين الثاني إلى المؤتمر في دورته الاستثنائية القادمة (لم يتحقق رغم تشكيل لجنة برئاسة الرفيق الأمين العام ومحاولات البدء في ذلك فعلاً، بسبب عدوان حزيران 1967).
3-وقد قرر المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي أيلول 1967 بهذا الصدد (ص 128-129) ما يلي:
…”نظراً للظروف التي أوجبت جعل أعمال المؤتمر التاسع الاستثنائي مقتصراً على التقرير السياسي المقدم من القيادة القومية، بدل أن يكون متضمناً التقرير العقائدي لتطوير منطلقات الحزب النظرية، وتعديل الدستور، وإعداد مشروع للنظام الداخلي، وتقييم تجربة الحزب في العراق، وإدراكاً من المؤتمر للأسباب التي حالت دون ذلك فإنه تقرر:
- عدم مسؤولية القيادة القومية عن التقصير في تنفيذ قرار المؤتمر القومي التاسع المتعلق بالأمور المذكورة أعلاه.
- وجوب تقديم التقرير العقائدي ومشروع النظام الداخلي، وتعديل الدستور وتقييم تجربة الحزب في العراق إلى المؤتمر القومي العاشر المقبل…
4-لم ينفذ القرار، بل اكتفى بتقديم التقريرين السياسي والاقتصادي فقط للمؤتمر القومي العاشر (أيلول 1968).
5-المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي: (30-10 إلى 12-11/1970/) ص (213) “التجربة، الجزء 3”.
*”على صعيد الحزب: “ط-وضع دليل نظري للحزب يعمق منطلقاته النظرية، وتدوين تاريخ الحزب وتطوير نظامه الداخلي”. وبالطبع لم ينفذ لقيام الردة التشرينية فور اختتام المؤتمر في 13/11/1970/ كما يعرف الجميع، وزج معظم قادة وكوادر الحزب في غياهب السجون، التي كانت تبدو أكثر إلحاحاً، ولا تقبل الارجاء.. بالإضافة إلى الصراعات والأزمات الداخلية والمؤامرات الخارجية الضاغطة التي حالت دون تنفيذ تلك القرارات، الأمر الذي أصبح أكثر تعقيداً بفعل الانقسامات التي أصابت الحزب، وظروفه الحالية المعروفة، بالإضافة إلى وفاة العديد من الرفاق القياديين الذين ساهموا – بغض النظر عن مواقعهم التنظيمية اللاحقة- في تاسيس الحزب، وشاركوا بفعاليات كبيرة، في مسيرته النضالية، فأخذوا معهم أجزاء حية هامة جدا،ً وغير قابلة للتعويض، من ذاكرة الحزب وتاريخه، وخاصة الرفاق الشهداء الذين لن تتح لهم ظروف الاعتقال السيئة الطويلة تدوين تجربتهم الحزبية.
فالتاريخ الحقيقي، ملك الأمة بأسرها، ولا يجوز أن يهمل بأي حال، بل يحتاج إلى تسجيل، ولو دون نشر فوري، لينشر في الوقت المناسب، حتى لا يشوه ويضيع.
وأذكر، بهذه المناسبة، ان هذه المسألة مازالت مطروحة في الجزائر، وتواجه الرحيل المتلاحق للعديد من المجاهدين الأبطال، ومعهم أجزاء هامة من تاريخ الثورة.
ولهذا، فإننا لسنا بصدد كتابة تاريخ الحزب، الذي يحتاج لعمل جماعي كبير، ولن نعود إلى الماضي إلاّ بمقدار ما يساعدنا على فهم الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل.. تحصيناً ضد الخطأ، وتسلحاً بالإيجابيات؛ وذلك بالاعتماد على القوانين والعوامل والخلفيات الأساسية، التي تتحكم في الأحداث والظواهر وتساعد على تفسيرها، بغض النظر عن الأشخاص ودورهم، وعدم ذكرهم، إلاّ عند الضرورة، مع الإشارة إلى أن مساهمتي الأساسية المباشرة في حركة 23 شباط 1966، ومعايشتي الحية والمسؤولة لتلك المرحلة المقصودة، في هذا (الكتاب) تخفف، ولا شك، من صعوبات، عدم توفر العديد من الوثائق الحزبية الهامة.
…”وإن استشهادنا –بأدلة- من تاريخ حزبنا النضالي الطويل، لا يعني تبريرنا لمن سقطوا، أو انحرفوا، أو تخلوا بعد ذلك، أو أصبحوا في حزب آخر، عبر مراحل مسيرته المختلفة، أو إعادة اعتبارهم في الوقت الراهن لأن تاريخ الحزب المشترك ملك جميع مناضليه، وهو حصيلة كفاحهم وتضحياتهم وعطائهم المشترك، ولا يعود لفرد أو قيادة بالذات (مع اعترافنا =أمانة= بتمايز الأدوار وتفاوت القدرات بالطبع)، كما أن طمس ذلك التاريخ أو تشويهه أو تزويره أو إسقاط المراحل المختلفة على بعضها بحجة التغطية على دور هذا القائد أو ذاك من الذين لعبوا أدواراً إيجابية في مراحل معينة من تاريخ الحزب، وإن كانت لهم أخطاؤهم وانحرافاتهم وأصبحوا في مواقع أخرى في الوقت الراهن بالنسبة لحزبنا، لا يجوز أن يتبع كنهج خاطئ وضار على غرار بعض الأحزاب التي تعيد كتابة تاريخها مع كل قيادة جديدة، أحياناً، وعلى حساب الكثير من الحقائق التاريخية، ومن أجل خدمة مرحلة سياسية معينة، وتمجيد القيادة القائمة، إذ رغم مسؤولية القيادة المتميزة إلاّ أنها جزء من واقع الحزب، ومحصلة وعيه في تلك المراحل”(1)…
فمن يقرأ تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي –على سبيل المثال- ربما يندهش من كونه تاريخ صراع داخلي، بقدر ما هو خارجي، حول فكر الحزب وإستراتيجيته وبرامجه المرحلية، وخطه السياسي، ومواقفه من القضايا المطروحة عليه، وأساليب نضاله وممارساته والإجراءات المتخذة لتحقيق أهداف الحزب في المجتمع، وخاصة في خضم مرحلة المخاض الثوري، وفي بدايات إرساء السلطة الثورية الجديدة. وهذا أمر طبيعي في جميع الأحزاب الثورية، والمهم ان يكون الصراع ديمقراطياً داخل الحزب، فبذلك فقط تكون الحصائل إيجابية، والفرز علمياً، وتستمر وتتقوى وحدة الحزب وانسجامه ويتجنب المناورات، و(الكولسة) والاتصالات الجانبية، والمؤامرات السرية، والتصفيات الخطيرة جداً، التي أخذت اشكالاً جسدية، في بعض الأحزاب اللاديمقراطية المعروفة (مثال المرحلة الستالينية)، كما تتخلص بالأساليب الحزبية الديمقراطية من التكتلات (السرطانية) التي تقتل نفسها، وقد تقتل الحزب إذا لم تستأصل في الوقت المناسب.
*”وإذا كان إعلان ولادة الحزب قد تم في (7 نيسان-أفريل-1947)، تاريخ انعقاد مؤتمره التأسيسي الأول في دمشق.. فإن مرحلة التبشير والتحضير والإعداد كانت قد بدأت قبل ذلك بعدة سنوات، ومنذ الأربعينيات، من خلال مجموعتين أساسيتين:
– مجموعة اللوائين (الذين قادوا النضال من اجل عروبة لواء إسكندرون) ثم هاجروا بعد سلخه وتسليمه إلى تركيا من قبل الاستعمار الفرنسي، وبالتواطؤ مع الرجعية السورية، والذين كانوا يلتفون حول الأستاذ: “زكي الأرثوذي”، ومن أهمهم الدكتور وهيب الغانم.
– والمجموعة التي كانت تلتف حول الأستاذين: “ميشيل عفلق” و”صلاح البيطار”.
(الأساتذة: الأرثوذي –عفلق- البيطار أكملوا دراستهم في فرنسا) رحمهم الله جميعاً وطيب ثراهم.
وقد قامت هاتان المجموعتان المتكونتان من المثقفين القوميين، والطلاب أساسا،ً بأدوار تبشيرية ونضالية هامة في تلك الفترة شكلت بذور “البعث” الفكرية والتنظيمية الأولى سواء بما حملتاه من افكار وشعارات في الكفاح الشعبي من اجل عروبة لواء أسكندرون، أو من أجل نصرة العراق عام 1940، أو النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وتجند كل أولئك الشباب في اللجان المسلحة والشعبية التي شاركت في القتال والكفاح السياسي ضد المستعمرين الفرنسيين عام 1945 وحتى الجلاء التام من سورية ولبنان.. إلخ..”.
o ولقد نشأ الحزب في مواجهة واقع التخلف والتجزئة، وتفاقم الخطر الصهيوني في فلسطين، وهيمنة الاستعمار المباشر وغير المباشر على وطننا العربي، الذي تقاسمته الدول الاستعمارية والإمبريالية فيما بينها، وفشل وعجز (التحالف الإقطاعي- البرجوازي الكبير- والعشائري-والطائفي)عن إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وتحوله إلى “وكيل للاستعمار الجديد على (الدولة المزرعة) التي كان يديرها بنفس العقلية الإقطاعية المتخلفة التي كان يدير بها الإقطاعي إقطاعاته الضخمة، ومتعاملاً مع الجماهير كرعايا وليس كمواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات…”؛ ثم نشوء حركات سياسية جديدة.. من أهمها:
-الحركات الإقليمية النكوصية الانعزالية (قومي سوري- فينيقي في سوريا ولبنان).. وفرعوني (في مصر).. والتي تأثرت – بشكل أو بآخر- بالفلسفة النازية والفاشية التي كانت سائدة في ذلك الوقت في ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية، والتي كانت معادية للقومية العربية، ولا تعترف بوحدة الوطن العربي والأمة العربية، و(تقوم أصلاً على محاربة ذلك بضراوة).
-الحركات الدينية المتعددة لمختلف الطوائف ذات الأيديولوجيات الرجعية والمعادية للتقدم، والتي كانت تحاول معارضة القومية العربية بالدين تعسفياً (مع أن العروبة والإسلام كالجسد والروح)؛ وتخدم من حيث النتيجة ترسيخ وتكريس التناقضات الطائفية (العمودية) داخل المجتمع على حساب التناقض الطبقي والوحدة القومية للمواطنين.
-الأحزاب الشيوعية المحلية التي انطلقت من واقع التجزئة والعدمية القومية، وكانت تركب موجة الأقليات القومية والدينية غالباً، وكانت قاصرة عن فهم واستيعاب “الماركسية-اللينينية”، واستخدامها في كشف وبلورة قوانين وأهداف وشعارات حركة التحرر العربي المعاصرة، ورسم إستراتيجية وتكتيك الثورة العربية…”.
– “… وقد خاض الحزب معارك شديدة.. وصراعات دموية أحياناً، مع بعض تلك الأحزاب، حول تثبيت فكرة العروبة ومفهوم القومية العربية (…) ومن أجل التقدم والتحديث، وإحلال الرابطة القومية محل الروابط الدينية والطائفية والمذهبية، وحول مفهوم الثورة العربية الوحدوية الاشتراكية، وأهمية فهم الواقع العربي، وأهمية استقلالية الثورة العربية، وضد العدمية القومية والنزعة الإقليمية الانفصالية والتبعية السياسية، وانتظار الحلول الجاهزة…”(2).
o وهكذا جاءت ولادة الحزب، كرد ثوري على هذا الواقع الخطير، واستجابةً طبيعية لمتطلبات النهوض القومي التحرري الوحدوي الحضاري الجديد؛ فاستوعب “البعث” وتمثل تراث الحركات القومية العربية السابقة، وتجاوزها نوعياً خلال (دستوره) الأول الذي عبر عن المنطلقات والقضايا الأساسية للثورة العربية.
“…(ومن هنا يمكن القول: إن حزب البعث العربي عندما أعلن أن المجموعة البشرية التي تسكن الوطن العربي إنما هي أمة واحدة ذات رسالة خالدة، وعندما حدد أهداف العرب: بالوحدة والحرية والاشتراكية قد قام بالدور التاريخي التالي:
1- كان استمرارا لحركة القومية العربية في نضالها ضد الاستعمار العثماني وضد الاستعمار الغربي، وكان تلبية لحاجات الأمة العربية في تلك المرحلة التاريخية في تكوين حركة سياسية شعبية منظمة تناضل في سبيل تحقيق اهدافها.
2-كانت اهداف الحزب تمثل خلاصة تجارب الثورة العربية في المراحل السابقة، وتمثل في الوقت نفسه محاولة لتجاوز أخطائها.
3-كان اول حركة عربية في العصر الحديث استطاعت ان تتوصل، نتيجة استقرائها لتجارب الثورة العربية، إلى تركيز مبادئ شاملة للثورة العربية في صيغة هي في غاية الوضوح والبساطة: الوحدة والحرية والاشتراكية.
على ان الحزب في مرحلة “البعث العربي” قد تأثر هو ذاته – شأنه في ذلك شأن كل حركة ثورية- بالظروف التاريخية التي نشأ فيها؛ فبمقدار الإنكار والتجاهل اللذين ووجهت بهما القومية العربية، اتخذت منطلقاته طابعاً يقينياً.
لقد أكد أمام النفي المطلق لوجود الأمة العربية أن القومية العربية حقيقة مطلقة بدورها، وأمام تجاهل التراث والتاريخ والوجود العربي طرح استمرار الأمة العربية وخلود رسالتها كحقيقة مطلقة (ونضيف: وهذا مع رفضه المطلق للشوفينية، وفهمه الإنساني الحضاري للقومية العربية).
لقد قال البيان الأول لحركة “البعث العربي”:
نمثل الروح العربية ضد الشيوعية المادية.
نمثل التاريخ العربي الحي ضد الرجعية الميتة والتقدم المصطنع.
نمثل القومية العربية التامة المعبرة عن حاصل الشخصية،
ضد القومية اللفظية التي لا تتعدى اللسان ويناقضها مجموع السلوك.
نمثل رسالة العروبة ضد حرفة السياسة.
نمثل الجيل العربي الجديد.
دمشق 24 تموز/ يوليو عام 1943)…”.
o ورغم أن البعث لم يتسلَّح منذ البدء بنظرية نضالية جاهزة (الأمر الذي كان من أسباب أزماته وأخطائه اللاحقة)، فإن مقولات الحزب ومفاهيمه نمت وتطورت واتخذت مضامينها عبر عملية طويلة من النضالات المتصلة، وذلك مفهوم في إطار الظروف الموضوعية العامة التي نشأ الحزب فيها، وفي إطار الطبقات والفئات التي عبر عنها، وسوية الوعي السائد. وفي ذلك يختلف عن نشأة غيره من الأحزاب التي تلتزم الأيديولوجية العلمية أو الرأسمالية مثلاً.
ولكن رغم هذه المنطلقات الأولية غير المتكاملة، فقد كانت طروحات الحزب وممارساته متقدمة، وذلك ما عبّرت عنه برامجه وشعاراته وحركة نضاله في تلك المراحل. وسنلخص فيما يلي أهم السمات الأساسية التي تميز بها الحزب منذ تأسيسه.. وحتى المؤتمر القومي الحادي عشر الذي دشن مرحلة الانتقال النوعي الجديد (المقصود هنا اعتماد النظرية العلمية):
1- إن الحزب جاء كحركة متقدمة في نشأته واهدافه عن كافة الأحزاب الأخرى المعاصرة له، بحيث اكتشف وبلور ولخص في شعاراته قوانين الثورة العربية المعاصرة في: الوحدة والحرية والاشتراكية، التي أصبحت الشعارات المهيمنة حالياً على معظم فصائل حركة التحرر العربي.
2- كونه تمكن عبر تطوره المستمر أن يدرك الترابط الجدلي الحي بين هذه الأهداف، خاصة في تلازم النضالين القومي و الطبقي، من أجل التحرر والوحدة وبناء الاشتراكية، كمسألة أساسية متميزة في فكر الحزب وممارساته بالنسبة لبقية الحركات السياسية في الوطن العربي.
3- كونه يربط بالمصير كل أجزاء الوطن العربي، ويدعو إلى وحدة نضال الشعب العربي في جميع أقطاره، واعتبارها الصيغة المعبرة عن وحدة مصالح الشعب العربي وأهدافه، ويعتبر الجماهير العربية الكادحة أداة وغاية الثورة، ويحرص على استقلالية هذه الثورة.
4- كونه يعتمد على القوى الذاتية للشعب.
5- يربط التحرر بالتغيرات المادية في المجتمع، وبالقضاء على علاقات الاستغلال.
6- ينادي بفكرة “الإنقلاب”، أي الثورة” كبديل للتطور البطيء والتدريجي.
7- (الحرية كأعمق أساس، وأقوى دافع، واعتبار القومية صورة حية عن الإنسانية، واعتبار الأمة مسرحاً للقيم الإنسانية).
8- عدم اكتفاء الحزب بتلك السمات النظرية المذكورة، بل كان الحزب الأول الذي جسّد هذه المنطلقات على الصعيد التنظيمي – في حزب قومي موحد- كشرط لابد منه لتوفير الأداة الثورية الملائمة لتوعية وإنهاض وتنظيم وقيادة الجماهير الشعبية الكادحة، لتحقيق تلك المنطلقات. حيث نصّت المادة الأولى من المبادئ العامة للدستور على التشكيل التنظيمي للحركة العربية الثورية، واعتبرت حزب البعث العربي *حزباً عربياً شاملاً تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، ويعالج السياسة القطرية من وجهة نظر المصلحة العربية العليا*
[ولم يكن هذا التحديد في الواقع أكثر من ترجمة عملية لحقيقة كانت قائمة فعلاً على شكل نواة تنتظر الانتشار لأن الحزب، وإن لم تكن له آنذاك فروع تنظيمية خارج القطر السوري قبل 1947، إلاّ أن نواة تلك الفروع موجودة مع وجود مناضلين من مختلف الأقطار داخل الحزب (في الجامعة السورية، وكذلك في الجامعة الأمريكية في بيروت].
9- دعا إلى تنظيم جبهة عربية نضالية شعبية قومية، وإلى توحيد الحركات الشعبية كسبيل لتحقيق وحدة الأقطار العربية (فالدعوة إلى وحدة النضال العربي، وإلى العمل الجبهوي، وإلى التوجه نحو التناقض الرئيسي نحو الاستعمار والصهيونية والتجزئة والتخلف والاستغلال الطبقي) كان يشكل جانباً ثابتاً في إستراتيجية الحزب.
[كما اعتبرت حركة “البعث العربي” الجامعة العربية “خطوة ضالة منحرفة” (نيسان-أبريل 1945) ظهرت في ظرف معين وفي ملابسات خاصة بعد تصريح لوزير خارجية بريطانيا “أنطوني أيدن”.. وأنها لا تفصح عن إرادة الأمة العربية في حقيقتها.. لأنها مؤلفة من ممثلي الحكومات الرسمية.. (كانون الأول-ديسمبر 1945).. ودعت إلى مؤتمر شعبي قومي عربي، وإقامة جامعة شعبية تعبر عن مصلحة الشعب العربي واهدافه القومية في سائر أقطاره]… ويلاحظ أن هذا الموقف اتخذ قبل إعلان تأسيس الحزب بصورة رسمية في (نيسان 1947).. حيث رغم استمرار نظرة الحزب (للجامعة) كبديل مشوه ومجهض للوحدة العربية إلاّ أنه تعامل معها إبان وجوده في السلطة…
10-[إدراكه للخطر الصهيوني، ونضاله ضد قيام (إسرائيل) واعتبار قضية فلسطين إحدى القضايا العربية الأساسية، واعلن أنه يجب أن تكون نصرة فلسطين أول امتحان لاستقلال سورية).
11-التأكيد على اهمية الأسلوب في نضال البعث، وضرورة كونه منبثقاً من العقيدة، ومنسجماً معها، وتجسيداً لها في الواقع الحي، وبالتالي على العلاقة الجدلية بين الإستراتيجية والتاكتيك –الهدف والوسيلة- وأهمية ذلك في مواجهة الاحتراف السياسي، والعقليات الانتهازية السائدة في الساحة العربية، رغم الخرق المتعدد والفاضح الذي تم ضد هذا المنطلق أحياناً خلال مسيرة البعث داخل التيارين اليميني واليساري الطفولي.. (ولا نتحدث هنا عن الانسلاخ الكامل الذي مارسه الساقطون والمرتدون عن مسيرة البعث.. الذين مازالوا يجأرون (بشعاراته).. ويمارسون نقيضها تماماً في الواقع على جميع الأصعدة، وفي مختلف المجالات، وعلى سائر المستويات…) مع التأكيد على أن هذا المنطلق الأساسي في الأخلاقية الثورية ظل وسيظل مصدر إلهام لا ينضب في سلوك وممارسات حزبنا باعتباره الوريث الشرعي لفضائل حركة البعث التاريخية ومنجزاتها الثورية، والمصمم على تجاوز أخطائها وتخليصها من أمراضها والمضي، بها ومن خلالها، نحو التحول الكامل للحزب الثوري من طراز جديد(3).
o وسنرى في سياق متابعة وتقييم تجربة الحزب أن السمات الأساسية للحزب، وخاصة من حيث تلخيصه لأهداف الثورة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، وترابطها الجدلي، والتنظيم القومي ووحدة المصير العربي، ونضال الجماهير العربية، الكادحة، أداة ووسيلة لحماية وانتصار هذا المصير، ومسألة العمل الجبهوي والتحالف النضالي بين القوى التقدمية العربية، لتحقيق الوحدة العربية وبقية مهام الثورة القومية الديمقراطية الاشتراكية المتداخلة.. إلخ؛ لا تزال صحيحة، وتثبت التجربة الحية صحتها يوماً بعد يوم، ولا بديل لها أو غنى عنها في معركة الخلاص الطبقي-القومي للأمة العربية…”.
… ولذلك وكما جاء في “الدراسة الأولية…” “فإن نقد التجربة لا يتناول هذه السمات الأساسية التي تشكل مبرر وجود واستمرار الحزب وتمنحه القدرة الذاتية على مواصلة تجذره وتحوله إلى الحزب الثوري من طراز جديد (كما حاولنا بعد حركة 23 شباط 1966 وحتى الآن) كحصيلة طبيعية لتطوره الجدلي عبر تاريخه الكفاحي الطويل، ولكن تقييم التجربة سيساعدنا على المزيد من توضيح وبلورة وتحديد وتعميق وإغناء هذه السمات، وكيفية التعامل معها، وتطبيقاتها وتجلياتها العملية في مختلف المراحل بحيث تكون أكثر إشراقاً، وأقوى نفوذاً في عملية التغيير الثوري المنشود، وعلى أرضية نقد وإبراز مخاطر الغموض الفكري، والبعد بين الشعارات والممارسة القاصرة، والصيغ التنظيمية الملائمة.. وعدم وجود البرامج المرحلية الواقعية القادرة على تجسيد تلك الشعارات على طريق تحقيق الأهداف النهائية للثورة العربية.. بالإضافة إلى الأخطاء العديدة في التطبيق العملي لتلك الشعارات.
فمن هذه المنطلقات الأساسية، يستمد الحزب عملياً وبجدارة حق الحياة والاستمرار والقدرة على التجاوز والتحول والتطور الجذري المتواصل كحاجة حيوية لهذه الأمة”(4).
هوامش:
- توضيح:
– نظراً لكثرة اعتمادنا على “الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب” وكونها هي أيضاً.. تعتمد، في كثير من فصولها على الوثائق الحزبية السابقة المعتمدة، (كمقررات المؤتمرات القومية والقطرية) –وكذلك بعض المراجع الأخرى (كأجزاء: “نضال البعث”)، وحتى لا نكرر هنا الإشارة إلى تلك المصادر المعتمدة.. باعتبارها محددة في هوامش “الدراسة” فإننا نكتفي، خلال هذا الكتاب، بالإشارة إلى /صفحات “الدراسة” مع استخدام الهلالين الصغيرين للفقرات المأخوذة عنها هكذا: « » والإشارتين التاليتين للفقرات المأخوذة من المؤتمرات الحزبية -< >- (أو * *) ثم هاتين الإشارتين للفقرات المأخوذة من “نضال البعث” [[ ]]
- في الأصل صدر هذا البيان بتوقيع الأستاذ ميشيل عفلق بمناسبة ترشيحه للانتخابات النيابية عام (1943)، ذكر فيه شعار الحزب لأول مرة: أمة عربية واحدة –ذات رسالة خالدة]…
وهو وإن كان (غير رسمي حزبياً)، أي صدر قبل إعلان تأسيس “حزب البعث العربي” في نيسان 1947.. إلا أنه ذو دلالة كبرى على جوهر تفكير أحد مؤسسي الحزب الأساسيين، وانعكاس هذا التفكير على قيادة ومسيرة الحزب فيما بعد..
وقد تجلى ذلك التفكير.. في معظم خطابات وكتابات الأستاذ ميشيل عفلق.. مثال، خطابه في “ذكرى الرسول العربي” الذي القاه في جامعة دمشق، عام 1943، … “نحن الجيل العربي الجديد، نحمل رسالة لا سياسة، إيماناً وعقيدة لا نظرية وأقوالاً… إلخ “في سبيل البعث ص 51-52”.
وقوله: …«مهمتنا شق الطريق، لا تعبيدها.. نزع الأشواك لا زرع الرياحين.. غرس الشجار لا قطف الثمار.. إلخ”…
والعديد من أقواله في مراحل التبشير-على الخصوص- التي تعبر الفكر المثالي الغيبي، والنزعة الروحانية الصوفية.. والنهج الذاتي الرومانسي.. (مما يبدو للبعض مفارقاً) مع أنه بديهي بالنسبة لأي حزب سياسي يناضل للوصول إلى السلطة كأداة لتطبيق برنامجه.
إن ذلك (النهج الصوفي) لم يمنع أن يترشح الأستاذ عفلق لتلك الانتخابات النيابية عام 1948/ ثم.. يترشح أيضاً هو والأستاذ صلاح البيطار، وعدد آخر من قادة الحزب الأساسيين في معظم الدورات الانتخابية المتلاحقة، وأن يستلم الأستاذ ميشيل شخصياً وزارة المعارف أيام انقلاب الحناوي.. بالإضافة إلى مساهمات الحزب في السلطة، بمناصب حكومية، في بعض المراحل السابقة لحركتي “شباط وآذار 1963” في العراق وسوريا.. اللتين قامتا باسمه وتحت شعاراته…
وإذا كان ذلك الفكر التبشيري الرسالي التطهري.. يثير حماس الأجيال الشابة، في تلك المراحل، إلى درجة تشبّه البعض (بحواريي السيد المسيح) إبان سنوات دراستنا الجامعية الأولى، على الخصوص… إلا أنه لم يستطع الصمود في مواجهة الواقع المعقد، والمهام النضالية الواقعية المطروحة، سواء في المنعطفات الحادة التي مر بها الحزب في مراحل النضال السلبي (أي المعارض).. أو بعد الوصول إلى السلطة خاصة.. حيث كان لابد من اعتماد النهج العلمي في تحليل الواقع وفهمه وكيفيات تغييره نحو الأفضل.. والبرامج، والأساليب، والممارسات العملية الملائمة لتحقيق أهداف الحزب في كافة المجالات الداخلية والعربية والدولية… بل أصبح –بالتالي- من بين الأسباب الأساسية للأزمات المتلاحقة التي عانى منها الحزب…
3 – المصدر ذاته.. ص. 27-29.
4 – المصدر ذاته .. ص 27-29.