حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي
مراجعة وتوسيع وإغناء
الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب
“مع التركيز على حركة 23 شباط/ فبراير 1966“
(مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس)
– الحلقة الثانية –
* الانقلاب العسكري والثورة:
لقد تعرض الحزب بالتفصيل لهذه المسألة في “الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب”، كما سنبين لاحقاً، ونطرحها هنا في سياق الموضوعات التي تحتاج للتفكير. ولا نتكلم عن الانقلابات العسكرية المشبوهة، والملغمة، التي لجأت، وتلجأ، إليها القوى الاستعمارية والإمبريالية والرجعية المعادية، لاستباق، وإجهاض الحركة الشعبية، وضربها، وإقامة أنظمة ديكتاتورية عميلة، تتولى تنفيذ المخططات المعادية للشعب، وتشكل الحالات الغالبة في الوطن العربي والعالم الثالث عامة، بل نقصد تلك الانقلابات العسكرية الوطنية القليلة، التي حدثت في بعض الأقطار العربية، والتي اصطلح على تسميتها (ثورات)، رغم أن بعضها اقتصر على القشرة الفوقية فقط.
ونذكر نماذجها الأساسية التقدمية المتمثلة في: انقلاب (ثورة) 23 يوليو –تموز-1952 في مصر، الذي قام به “تنظيم الضباط الأحرار”، واستمد ثوريته من قضائه على النظام الملكي، وتحرير مصر من الاحتلال الإنكليزي، وتأميم قناة السويس، والوحدة المصرية-السورية، والتصدي (لإسرائيل) والمشاريع الاستعمارية والإمبريالية والرجعية في المنطقة، والإنجازات التقدمية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية القومية والعالم ــ ثالثية الهامة جداً، التي حققها النظام الناصري الجديد.
وكذلك انقلاب (ثورة) 14 تموز 1956، في العراق، الذي نفذه الضباط الوطنيون بمساندة “جبهة الاتحاد الوطني”،التي كانت تضم حزب الاستقلال، والبعث، والشيوعي، والوطني الديمقراطي، وعدد من المستقلين)، الذي استمد ثوريته، أساساً، من قضائه على النظام الملكي، وإخراج العراق من حلف بغداد، وما لبث أن تعثر، كما هو معروف، وأدى إلى سلسلة من الانقلابات المتتالية، بما في ذلك انقلاب (ثورة 14 رمضان (8 شباط) فيفري 1963)، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، ومشاركة بعض الضباط القوميين، وتميز بمساهمة جهاز الحزب المدني، ولكن سرعان ما قضت عليه الردة الانقلابية في تشرين الثاني من العام ذاته 1963، بعد أقل من شهر من قرار المؤتمر القومي السادس (بتوحيد سورية والعراق: اللذين كان يحكمهما الحزب)، بفعل تآمر الكتل والجيوب اليمينية والمشبوهة، العسكرية والمدنية داخل الحزب ذاته، مع بعض الجهات الأخرى الرجعية المعادية للوطن والحزب، وما وقع خلال ذلك، منذ 14 تموز 1958 من إيجابيات وسلبيات متفاوتة، وصولاً إلى الوضع الحالي المعروف. ثم انقلاب (ثورة) 8 آذار (مارس) 1963 في سورية، الذي نفذه تحالف الضباط البعثيين والناصريين والوطنيين المستقلين، وقضى على نظام الانفصال الرجعي في سورية، وما تعرض له من صراعات بين أطرافه المذكورة، التي امتدت –بعد تفرد الحزب بالسلطة إلى داخل الحزب بالذات- وصولاً إلى حركة 23 شباط (فبراير) 1966 التي تشكل محور هذا (الكتاب).
إن هذه الانقلابات العسكرية الوطنية، والتقدمية، التي اعتبرت (ثورات) كونها نقلت السلطة من طبقة رجعية (إقطاعية-برجوازية كبيرة) إلى تحالف طبقي (تقدمي) جديد (برجوازية صغيرة + عمال وفلاحين+ وشرائح متفاوتة الحجم من البرجوازية المتوسطة الوطنية)، وبعضها أيضاً، من نظام ملكي إلى نظام جمهوري، قد حققت كذلك، وبدرجات متفاوتة، قسماً من أهداف (الثورة الوطنية- القومية- الديمقراطية)، ولكنها انتكست بفعل أوضاع ذاتية سلبية، وداخلية وخارجية موضوعية معادية متداخلة، لعلّ من أهم أسبابها: احتكار السلطة، وغياب البعد الديمقراطي الحقيقي (السياسي على الخصوص)، وضمور الحركة الشعبية، وكون تلك الإنجازات والتحولات التقدمية تمت بقرارات فوقية، وتجمدت في مرحلة رأسمالية الدولة، الأمر الذي سهل صعود الشرائح البرجوازية الصغيرة (الزئبقية)، التي كان بعضها يتجه نحو اليسار والتجذر في مجرى تلك التحولات، خاصة في مراحل النهوض القومي والعالمي التقدمي، والبعض الآخر يتجه نحو اليمين والتبرجز الذي سرعان ما تخلى عن (ثوريته)، تبعاً لمرحلة الانحسار (بعد عدوان حزيران 1967) على الخصوص. واستشرى سعاره للهيمنة والتسلط، وتصفية الأجنحة اليسارية، والانقلاب على إستراتيجية النظام الثورية، وبرنامجه، ومواقفه القومية التقدمية المبدئية، والانكباب على الاغتناء –غير المشروع- من خلال مواقعه في السلطة، ثم تزاوجه مع بقايا الطبقة البرجوازية التقليدية السابقة، لتشكيل طبقة برجوازية طفيلية هجينة جديدة، لا دين لها ولا وطن سوى المال والتسلط، شعارها: الحصول على أكثر ما يمكن من المال والممتلكات الأخرى، بأسرع وقت ممكن –وأقل قدر من الجهد- وبكل السبل والوسائل. فتحولت بذلك إلى (وكيلة) للإمبريالية، وسمسار لشركاتها الاحتكارية المتعددة الجنسيات، لتسهيل عملية نهب الوطن وإفقاره.
حتى أصبح المرء يتساءل تحت وطأة الردات الديكتاتورية الحالية –التي أتت على الأخضر واليابس، واستهلكت إنجازات مراحل النهوض التقدمية السابقة، وأودت بسيادة الأقطار المتسلطة عليها واستقلالها الوطني، وأغرقتها في تبعية عبودية إمبريالية خطيرة، عما إذا لم يكن من الأفضل– تفادي اللجوء إلى تلك الانقلابات العسكرية (الثورية)، والتحضير لإنضاج ثورات شعبية حقيقية، أو حتى النضال للتغيير الديمقراطي السلمي –مهما كان طويلاً وشاقاً- كونه يزج بأقسام واسعة من الجماهير في العمل السياسي الوطني العام، ويساعد بذلك على إنضاج وعيها، وتحصينها من الردات والانتكاسات.
وهكذا، يبدو من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يتحول الانقلاب العسكري التقدمي إلى ثورة شعبية متكاملة، حتى لو كان مستنداً إلى تنظيم سياسي تقدمي، أو جبهة وطنية تقدمية، بل يمكن تسميتها (انقلابات ثورية) و(حركات إنقلابية ثورية)، حيث لم يعتبر المؤتمر القومي الحادي عشر لحزبنا /1980/ انقلاب (8 آذار 1963) (ثورة) كما كان يسمى في أدبيات الحزب السابقة، بل (انقلاباً ثورياً) أو (حركة ثورية).
حيث تبقى (تلك الانقلابات الثورية) معرضة للصراع الداخلي بين أجنحتها اليسارية واليمينية المتبرجزة -كما ذكرنا- أما نحو التكامل والتجذر الثوري، والاندماج الشامل بالجماهير الشعبية الكادحة، كما كنا نتطلع بعد حركة 23 شباط 1966 في سورية، وإبان حياة الرئيس عبد الناصر ولفكره الجدلي المتطور في مصر. وإذا كانت إمكانية الوصول –إذ ذاك- إلى مرحلة الثورة الحقيقية بتوفير البعد الديمقراطي الشعبي المطلوب، على الخصوص، ليست مغلقة وغير مستحيلة، بل مطروحة، بفعل جدلية تطور الوعي، ومقتضيات ومتطلبات الحياة الضاغطة بالذات، عبر الإنجازات الهامة جداً التي تحققت في القطرين في مجرى الثورة القومية –الديمقراطية- الاشتراكية المتداخلة، التي لا ينكرها إلاّ جاحد أو مكابر أو عميل، والتي كنا نطمح إلى استكمالها بتحقيق الوحدة وتحرير فلسطين. ولم تكن، بالتالي، مرحلة الردات الحالية قدراً محتماً لا يرد. ذلك أن هذه الردات لم تقتصر على الأنظمة التقدمية، المنبثقة عن الانقلابات العسكرية فقط، بل شملت حتى الاتحاد السوفياتي ذاته: بلد ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى، ربما بآلية واحدة أساسية في الجوهر، رغم تعدد وتعقد الأسباب، وخصوصية الظروف والأوضاع المختلفة، هنا وهناك، نعني احتكار السلطة، وغياب الديمقراطية والرقابة الشعبية في كافة المجالات، مما سهل تكون الطبقة البرجوازية الطفيلية الهجينة الجديدة، (المافيوزية) النهابة والمرتدة (البرجوقراطية).
إنما تكون احتمالات الارتداد أسهل، بما لا يقاس، في أنظمة الانقلابات العسكرية، منها في أنظمة الثورات الشعبية، التي تنصهر من خلالها الجماهير، وتزداد مناعتها الوطنية والتقدمية.
تلكم بعض استلهامات تجارب الماضي غير البعيد، والواقع الحالي المعاش، التي يجب الاستفادة منها في النضال الجاري في سبيل التغيير الديمقراطي المطلوب. حيث يمكن القول: “ان طبيعة وشكل وأسلوب السلطة القائمة في بلد معين، هي التي تحدد شكل وأساليب النضال لتغيير هذه السلطة. وليست المسألة قضية رغبة ذاتية في اختيار كيفية الوصول إلى السلطة”(1).
– ورغم إيماننا بأن الطريق السلمي هو الأسلوب الحضاري الأفضل، إلاّ أن طبيعة الأنظمة الديكتاتورية والرجعية السائدة، التي ترفض التغيير بالأساليب الديمقراطية، والتبادل السلمي للسلطة، لا زالت تفرض السبل الثورية لذلك، حسب طبيعة وظروف البلد المعني.
“وبالتالي فإن أسلوب التغيير الثوري في مثل هذه الأوضاع الفاشية واللاديمقراطية لا يمكن أن يتم إلاّ بالانتفاضة الشعبية، التي تشمل كافة الجماهير والمؤسسات القائمة، بما في ذلك الجيش، وفق خطة نضالية، تتولاها جبهة وطنية ديمقراطية. أي أن دور الجيش يجب ان يحسب كجزء من الانتفاضة الشعبية العامة فقط، وليس كبديل لها، حتى لا تعود إلى لعبة الانقلابات العسكرية السابقة المدمرة التي يجب استبعادها…”(2)
– إن هذه المسألة برمتها تستدعي الحذر واليقظة، والتفكير والنقاش بين القوى الوطنية الديمقراطية العربية، للخروج من حالة الانسداد السياسي المزمن المديد، الذي يكاد يخنق حياة الوطن والأمة. خاصة إذا علمنا، أن الإمبريالية ستعمد، عندما تستهلك هذه الأطقم الحاكمة الحالية، إلى استبدالها بأطقم جديدة (من رحم هذه الأنظمة بالذات)، مع تغليفات وتزيينات فولكلورية شكلية، حسب كل ساحة، لخداع الشعب، وإيهامه بالتغيير المزيف الجديد، ومحاولة جر بعض فصائل المعارضة المنهكة، الانتظارية والانتهازية، إلى التعاون مع (الأطقم الحاكمة الجديدة)، بما يساعد على (تجديد شباب) الأنظمة المتآكلة الهرمة، وجعلها أكثر قدرة على مواصلة خدمة مصالح التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي، وتأخير وإجهاض التغيير الديمقراطي الحقيقي المنشود.
*الثورة والدولة:
لقد اتسم التاريخ البشري الكفاحي باضطهاد جميع الأنبياء وطلائع المصلحين والثوريين، الذين تصدوا لتغيير الواقع الفاسد، باتجاه مجتمعات الحرية والعدالة والتقدم –وذلك في مرحلة التبشير خاصة- لأن القوى المحافظة السائدة تحارب كل دعوة لتغيير الواقع لذي تهيمن عليه.
ولكن تلك الحركات الثورية المعبرة عن مصالح الأكثرية، ومراحل الحياة الموضوعية الجديدة، الأكثر تطوراً، كانت تتحول تدريجياً إلى فيض شعبي كاسح، يشبه الأنهار الكبرى التي تشكلت حولها حضارات العالم القديمة.
وكما تحمل تلك الأنهار، في فترات فيضاناتها الغامرة، الكثير من جذوع الشجار والصخور والطمي والحطام، وحتى اشلاء الحيوانات وجثث الغرقى، كما تصيب العمران والبشر والأراضي الزراعية القائمة على ضفافها، وفي أحواضها، بكثير من الكوارث والخراب والدمار، حتى يتساءل الإنسان، الذي رآها قبل الفيضان، أهذه هي الأنهار، التي كانت تبدو هادئة رائعة، ويتغنى بجمالها (وخلودها) الشعراء والفنانون، وتنشر الحياة والعمران والازدهار، وتشكل شريان الحياة لمعظم حضارات البشر القديمة المعروفة؟…
وكذلك الحال بالنسبة لمعظم الثورات التاريخية الكبرى، التي قد يبدو بعضها، لمن يكتفي بتأمل سطحها ومظاهرها الخارجية فقط، منفرة كريهة بصراعاتها وعنفها وتصرفات بعض قادتها ورجالها، وما قد يرتكب خلالها من اخطاء، وانحرافات، وتصفيات دموية مؤلمة، وغير عادلة أحياناً، حتى اصبح يقال: “الثورة كالقطة تأكل أبناءها..” …إلخ.
إلاّ أن ذلك الحطام العفن حيناً، والزبد الدموي المتطاير أحياناً أخرى، الذي يطفو على السطح، لا يعبر عن حقيقة الثورة وأعماقها، التي تمثل روح الشعب، وتحمل نقلته النوعية نحو المستقبل الأفضل.
وكما أن فترات الفيضانات الهائجة لا تدوم، إذ تعود الأنهار إلى هدوئها الساحر الجليل، وهكذا الحال بالنسبة للمد الثوري العاصف، كما تقول الآية: “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
ومثلما استطاع العقل البشري تطويع الطبيعة، باكتشاف قوانينها، واستخدامها لمصلحة التقدم، بحيث أمكنه ترويض تلك الأنهار، وتلافي نتائج فيضاناتها المدمرة بالسدود، والأقنية التحويلية وغيرها، واحتجاز وتخزين تلك المياه الزائدة، لتستعمل في مراحل الجفاف، لضمان النمو والحياة، كذلك فإنه استطاع أن يتفادى الكثير من سلبيات الثورات، ويحقق عبرها النقلات النوعية الكبرى في تاريخ البشرية، وباستطاعته أن يفعل المزيد من ذلك في المستقبل، بتمثل أعمق، وأشمل، للقوانين الاقتصادية-الاجتماعية، والسياسية المكتشفة، والتي يمكن أن تتطور أو تكتشف لاحقاً، بما يقلص العنف الثوري إلى الحدود الدنيا، التي لا مفر منها في مواجهة عنف القوى المضادة للثورة المسلحة فقط، ويؤطر الثورة، ويحميها، بقيم أخلاقية سامية، وقوانين، وضوابط، وآليات حضارية جديدة، أكثر ديمقراطية وإنسانية وعدلاً.
فإذا كانت الثورة تصهر المناضلين في مجراها، وتكتشف، وتفجر، خير ما في نفوسهم من فضائل إنسانية، وتبلور شخصيتهم النبيلة، وتجعل منهم تجسيداً حياً للمبادئ والقيم التي تدعو إليها الثورة، فماذا بعد انتصار الثورة، وانتقالها إلى مرحلة بناء الدولة؟ وتطلع البعض، بحكم الحرمان المزمن، والإعياء النضالي، والطبيعة البشرية، إلى إغراءات السلطة، وكيف يمكن حماية المناضلين من ذلك، وجعل هذه الدولة أداة ديمقراطية حقيقية ناجحة، لتطبيق برنامج الثورة، وتحويل الآمال والأحلام، التي حملها الثوار، وضحوا من أجلها، إلى واقع معاش؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكن المحافظة على روح الثورة الملهمة، التي يقوم على هديها المجتمع الجديد، في إطار جدلي ينبثق عن هذه الروح، في علاقتها مع القوانين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تقوم عليها دولة الثورة، والمعطيات والمستجدات المتلاحقة في كافة المجالات، وبما يوائم بين حركة الثورة، وقوننة واستقرار الدولة، ويحول دون تحول هذه الدولة من أداة لخدمة المجتمع ومصالحه وتقدمه المتواصل، إلى إطار جامد وخانق للتطور، ثم إلى ردة على الثورة بالذات، وأداة قمعية بأيدي الطبقات البروقراطية البرجوازية الديكتاتورية الجديدة، المعادية للثورة، التي يصبح محركها هو: الاستحواذ على أكبر قدر من المال، بأسرع وقت، وبأقل جهد، وبكل الوسائل والأساليب المتاحة، وصولاً إلى تعريض سيادة الوطن واستقلاله إلى الضياع، وتحول هذه الطبقة الحاكمة إلى وكيل تابع للرأسمالية العالمية، وسمسار لشركاتها السرطانية النهابة لثروات الوطن وجهود المواطنين، مقابل دعم استمرار تسلطها على الشعب، وذلك في بلدان العالم الثالث على الخصوص.
تلكم هي المسألة المطروحة على الفكر الثوري، ولابد لها من حلّ، يتعاون على إيجاده كل المحبين لشعوبهم وللإنسانية جمعاء، وكسر هذه الحلقة الجهنمية، المرتبطة بالصراع الطبقي أساساً.
ومن المعروف في الأدبيات الماركسية، ان البعض حاول حلّ “معادلة: الثورة-الدولة” بالدعوة إلى نظرية “الثورة الدائمة”، الأمر الذي لم يتحقق عملياً، بتلك الصيغ المطروحة، لأن الدولة تحتاج إلى حد أدنى من الاستقرار والتأطير لتنفيذ برنامج الثورة. إذ لا أحد يمكنه أن يقدم على بناء مدينته فوق فوهة بركان، أو في بؤرة الزلازل.
كما أن “الثورة الثقافية” التي فجرها “ماوتسي تونغ” في الصين، في الفترة الأخيرة من حياته، لمعالجة (بقرطة) وتجمد النظام الاشتراكي القائم، وتفادي، وتحطيم بدايات التكونات الطبقية المتبرجزة المحافظة الجديدة، وكنسها من قيادات الحزب ومؤسسات الدولة والمجتمع بأسره، قد جاءت في هذا السياق، الذي يهدف إلى المحافظة على جدلية الثورة-الدولة، بما يوازن بين استمرار حركية الثورة الدافعة، وقيمها الأخلاقية المجسَّدة عبر الممارسات العملية للمواطنين، وبين ضرورات الحد الأدنى المطلوب من استقرار أسس الدولة، كي تتمكن من تجسيد أهداف الثورة في واقع الحياة، ومنع انتكاسها وتحولها إلى ردة طبقية برجوازية، يحتاج تغييرها إلى ثورية شعبية جديدة.
ورغم كل ما قيل، ويقال، عن تلك “الثورة الثقافية”، ومرحلة “الانفتاح البراجماتي” اللاحقة التي قادها ” دينغ هسياو بينغ” بعد رحيل ماو، فلازال البحث، بل الصراع، جارياً للاهتداء إلى الصيغة المناسبة لحل تلك (الإشكالية)، حيث يحاول الحزب الشيوعي الصيني، مؤخراً، نقد مرحلة “الانفتاح” الحالية، وما رافقها من فساد، وتفسخ، وانحرافات، وظواهر مرضية اجتماعية عديدة، والدعوة إلى إعادة التركيز على القيم الأخلاقية والاشتراكية، وإحياء ذكرى “ماو” وكرمز للثورة الصينية.
ونعتقد أن التحليل، والتجربة، والممارسة العملية، تشير إلى أن الحل الأفضل لا يتوفر إلاّ عبر الصيغة الديمقراطية الاشتراكية، لأن الحرية لا يمكن أن تحلِّق إلاّ بجناحيها (الديمقراطية الاقتصادية-الاجتماعية، والديمقراطية السياسية)، ولعل غياب البعد الديمقراطي السياسي، كان في صميم أسباب عدم نجاح محاولة “الثورة الثقافية”.
وكذلك لم ينجح الاتحاد السوفياتي، وبلدان أوروبا الشرقية، في حل معادلة: الثورة-الدولة، وكانت النتيجة، ولأسباب عديدة متداخلة (ليس مجال شرحها هنا)، إصابة التجربة بمرض (الشيخوخة المبكرة) وانهيارها الكارثي المعروف.
وحتى الرسالات السماوية، ومنها الإسلام بالذات، كأعظم وخاتم هذه الرسالات، لم ينجُ من الردات والانقلابات، حيث تحولت “الخلافة الشورية” إلى “ملكية وراثية استبدادية” بعد مرحلة الخلفاء الراشدين، وحتى الآن، (باستثناء فترة الخليفة عمر بن عبد العزيز المتميزة الرائعة، التي شكلت تطويراً فذاً لمرحلة الخلفاء الراشدين، ومحاولة ثورية لجعل الدولة تجسيداً لروح وقيم ومبادئ الرسالة الإسلامية العظيمة، فاغتاله (أهله) بالسم، بعد أن سموا ابنه الصالح، ليتخلصوا منهما، ويعودوا إلى مرحلة الاستغلال والفساد والتسلط والترف السفيه).
وكما تنبأ الرسول العظيم، في الحديث الذي يروى عنه، “أن الخلافة ثلاثون سنة، ثم هي بعد ذلك ملك عضوض” فقد ركب (الطلقاء)، الذين حاربوا الدعوة الإسلامية بشراسة حتى فتح مكة، موجات النصر الأخير، ليستولوا على السلطة، في أواخر عهد الخليفة عثمان، بالتحالف مع عدد من كبار المسلمين الأولين من أثرياء قريش السابقين والجدد، ثم تأسيس (الدولة الأموية)، والبدء بالقتل والتصفية والملاحقة والاضطهاد، لمن لم يستطيعوا إغراءه، واحتواءه بالمال والنفوذ والتهديد، واستخدام سمعته، وتاريخه النضالي، للتغطية والتضليل، من المجاهدين المؤمنين الصادقين السباقين، الذين حملوا الإسلام في قلوبهم، ونصروه في مراحل الدعوة والتبشير والكفاح الشاقة العسيرة.
ويحلل الأستاذ عباس محمود العقاد، أسباب ذلك الانقلاب في “المجلد الثالث من مؤلفاته: العبقريات الإسلامية: عثمان بن عفان”(3) فلا يعزوه إلى شخص عثمان بالذات، بل يتجاوز ذلك إلى التطورات الاقتصادية الاجتماعية المستجدة، بفعل الفتوحات الواسعة، والغنى الفاحش الذي أصاب عددا من الشخصيات الإسلامية الهامة –تبعاً لذلك- بغير حق، وخلافاً لتعاليم الإسلام، والذين لم يسمح سن عثمان المتقدم ونصائحه، وعلاقاته العائلية المعروفة، بمنعهم من ذلك، ناهيكم عن محاسبتهم، فانفجرت “الفتنة” وقتل الخليفة، وكان ما كان من صراع دموي كارثي، انتصرت فيه الطبقة الارستقراطية القرشية والبرجوازية الجديدة على جمهور المسلمين وفقرائهم.
ورغم ذلك الانقلاب (الملكي العائلي الوراثي الاستبدادي) فقد استمر الحكم باسم (الخلافة الإسلامية، الذي وجد دائماً وابداً، وفي جميع العهود والأزمنة، من يفتي له بالباطل من (مفتيّ السلطان)، الذين يزورون كل شيء، ويقدمون التفاسير الخاطئة المضللة، حتى للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، بما يطوعها لخدمة وتبرير النظام القائم، الأمر الذي ما زال متواصلاً حتى الآن، حيث تجد الأنظمة الرجعية والمرتدة، المتسترة (بالإسلام)، و(الثورية) (المنظِّرين) المأجورين الجاهزين لقلب الحقائق، وتصوير الملكية الوراثية المطلقة والديكتاتورية: ديمقراطية وشورى، والخيانة بطولة، والاستسلام سلاماً وانتصاراً…إلخ.
*ولذلك فإني أكرر، دون ملل، عدم كفاية الاعتماد على الحصانة الذاتية للمناضلين والناس عامة، فحتى القرآن والسنة والأحاديث النبوية العظيمة، ونهج الخلفاء الراشدين (وخاصة أبو بكر وعمر وعلي)، لم تمنع من تكون تلك الطبقية المستغلة المذكورة الجديدة، التي لم يعد يناسبها نهج الرسالة الإسلامية، التي تحث على العدالة والمساواة بين الناس، وتنهى عن تكديس الذهب والفضة”، “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”، ولم تردعها عن الانقلاب على (الخلافة الشورية) وتحويلها إلى “ملك عضوض”.
وبالتالي فإن الوعظ، والنصائح النظرية، لا يمكن أن تلغي حقيقة الصراع الطبقي الدائر في المجتمعات البشرية، أو تمنع الناس من الارتداد، إذا كانت الظروف الاقتصادية-الاجتماعية مهيأة لذلك. الأمر الذي لا يجوز معه الاكتفاء بالتربية والتوجيه، على أهميته وفائدته في التوعية والتحصين، بل يجب الحيلولة، بآليات عملية صارمة، دون توفر الشروط التي تتيح استغلال الظروف الموضوعية لقيام الردة عامة.
فالمال، ثم المال، ثم المال.. في كل زمان ومكان، يصبر عليه المؤمنون والثوار الأوائل، ولكن يخضع له الآخرون –بعد النصر- وعبر تكون (الدولة)، فتقوم الردة، وتنتكس الرسالات والثورات إلى يومنا هذا.
لذلك لابد من الخروج من هذه الحالة الجهنمية المخيفة، حيث تتم تصفية الثوار وحملة الرسالات لصالح القوى الطبقية المستغلة الجديدة…
لأن القلة النادرة فقط من المناضلين المؤمنين، الذين يستطيعون، لتكونهم الذاتي الحصين، مواجهة الإغراءات (الموضوعية)، ورفضها، ومواصلة التمسك بالنقاء الثوري، بينما لا يستطيع ذلك معظم الناس، ما لم يجدوا أمامهم روادع (موضوعية) تحميهم من انفسهم، وتمنعهم من الانحراف والفساد والإفساد.
إذ ليس من الطبيعي على سبيل المثال: أن تأتي برجل مكتمل –مهما كان- وتضعه في دار مقفلة مع عشرات النساء الجميلات العاريات، اللواتي يتراقصن من حوله، ويعملن على إغرائه، ثم تنتظر منه رفض الإستجابة لهن، فهذا قد لا يحدث إلاّ مع الأنبياء تقريباً، بل الطبيعي عدم إتاحة مثل هذه الظروف المحيطة أصلاً.
وكما قال السيد المسيح: “ربنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ولا توقعنا في التجربة حتى لا نجدّف باسمك”.
*ولم تستطع البشرية، حتى الآن، إيجاد الصيغة المثلى لحل تلك الإشكالية المذكورة، سواء عبر الأنظمة الرأسمالية في الغرب، أو التجارب الاشتراكية المجهضة، التي كانت تحمل الأمل للإنسانية بالخلاص النهائي. ذلك أن الديمقراطية الليبرالية في البلدان الرأسمالية المتقدمة عامة، = ربما باستثناء البلدان الاسكندنافية الأفضل نسبياً= قد اقتصرت على الجانب السياسي فقط، مع تقديم بعض الضمانات والخدمات العامة للمواطنين، ورفع مستواهم المعيشي والثقافي والحضاري، بفعل الثورة العلمية والتقنية، واستغلال ونهب شعوب العالم الأخرى.
ولهذا، ورغم كونها، في المجالات الداخلية، أفضل طبعاً –بما لا يقاس- من الأنظمة الديكتاتورية حيثما كانت، إلاّ أن (رداتها) الرأسمالية.. اتخذت منحى عالمياً متوحشاً يهدد مصير البشرية بعبودية طاغية جديدة(4).
ولكن هذه الحالة ليست قدراً محتماً، ولا يجوز أن تتكرر هكذا إلى ما لا نهاية، لأن التطلع نحو مجتمعات الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والتقدم والسلام العالمي يعبر عن نزوع البشر الأصيل، الذي ما زال يلهم الشعوب المناضلة، التي لابد أن تجد الصورة المثلى لذلك.
ونحن لا نرى –حتى الآن- صيغة أرقى وأفضل من الديمقراطية الاشتراكية لخلاص البشرية، كونها تعبر عن توازن معادلة: (الثورة-الدولة) و(الأمة-الإنسانية)، وتحقق الحضارة الأكثر تقدماً على الأرض، رغم استمرار الصراع الطبقي (الذي تنبأت الشيوعية بانتهائه، وتحوله إلى صراع مع الطبيعة..)، ما استمرت الحياة، والذي قد يأخذ اشكالاً أخرى ملطفة، عبر أقنية العدالة والديمقراطية الاقتصادية والسياسية، والمساواة الاجتماعية الانسانية، التي تحققها الصيغة المذكورة.
وعلى هذا الطريق، الذي كان الرفيق الشهيد صلاح جديد الأمين العام المساعد للحزب، ورفاقه، يحاولون، بعد حركة 23 شباط 1966، شقه، وتعبيده في سورية والوطن العربي، قبل أن تقطعه الردة التشرينية 1970، كان لابد من الحل الديمقراطي أساساً، والبدء بتطبيق الديمقراطية كنهج شامل في العمل والحياة(5)، وتحقيق العدالة الاجتماعية.. وصولاً إلى مرحلة الديمقراطية الاشتراكية الإنسانية.. في إطار الوطن العربي الموحد…
وخلاصة القول، وريثما يتم الوصول إلى الصيغة النهائية الملائمة، وللوقاية من قيام الردات، يجب أن تضمن الثورة قيام النظام الديمقراطي، الذي يتيح تنظيم المجتمع في أحزاب، ونقابات، واتحادات مهنية، ديمقراطية مستقلة، ويتولى الشعب حكم نفسه بنفسه، عبر ممثليه المنتخبين ديمقراطياً، في كافة هياكل الدولة الجديدة ومستوياتها، وأن يدير جميع مؤسسات الدولة والمجتمع بصورة ديمقراطية، فتكون دولته مجرد أداة ديمقراطية لإدارة الشؤون العامة والمشتركة للمواطنين، بما يضمن استمرار، وأمن، وتطور الوطن والشعب، وهذا يستوجب وضع ضوابط تشريعية وقانونية اقتصادية واجتماعية صارمة، بما لا يتيح الفرص والظروف الموضوعية التي تجعل التبرجز والفساد والتسلط ممكناً بأي حال، وضمان سائر الحريات الخاصة والعامة، وحقوق الإنسان المعتمدة عالمياً، والتأكيد على أهمية حرية الصحافة، وحق النقد، وكشف الحقائق للجماهير، ودورها الفعال في هذا المجال، وشرط التعددية السياسية، ووجود الأحزاب المعارضة الوطنية الديمقراطية النشيطة، كعامل توازن وتغيير سلمي، لا غنى عنه في مراقبة ومواجهة احتمالات الانحراف واحتكار السلطة…
*عامل الزمن.. وإمكانية “حرق المراحل”:
لن ندخل في غمار التنظير لأطروحة “حرق المراحل”، التي درسها العديد من المختصين، الأكثر تعمقا،ً وخبرة، وإطلاعاً منا في مجالات الدراسات الماركسية-اللينينية والتجارب المطبقة في البلدان الاشتراكية، ولكننا نطرحها من خلال تجربتنا العملية، وكونها لا تزال مطروحة على الفكر العلمي الثوري، وكمجرد مساهمة أولية متواضعة في ما تم حتى الآن، وما يمكن، ويجب، أن يجري حولها من أبحاث معمقة في المستقبل بمشاركة كل الجهات التقدمية المعنية في العالم.
وحسب التصنيف الماركسي النظري المعروف لمراحل التطور، فإن الاشتراكية تلي مرحلة الرأسمالية، وتولد من (رحمها)، بعد استنفاذ أغراضها. حيث يتفاقم التناقض بين قوى الانتاج ذات الطابع الاجتماعي المتزايد، وبين الملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج، وعلاقاته الرأسمالية، فيصل إلى ذروته بتولي الطبقة العاملة (حفارة قبور الرأسمالية)، و(الخارجة من أحشائها)، القيام بالثورة الاشتراكية، كمرحلة نوعية جديدة متقدمة، تحقق الانسجام بين قوى الانتاج الجماعية، والملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، وعلاقاته الاشتراكية. وذلك على قاعدة مادية وتقنية متطورة، تمثل أعلى ما حققته الرأسمالية، لتنطلق منها إلى مرحلة أرقى في بناء المجتمع الاشتراكي، الذي يجسد العدالة والمساواة والازدهار في جميع المجالات، وصولاً إلى المرحلة الشيوعية النهائية اللاحقة، التي تزيل الطبقات، وتحقق الحضارة الإنسانية الجديدة (التي كان يأمل دعاتها أن تشكل نوعاً من الجنة على الأرض).
وكان المتوقع –انطلاقاً من ذلك التحليل- أن تقوم الثورة الاشتراكية في إنجلترا وألمانيا أولاً، حيث مراكز الرأسمالية الأكثر تطوراً، التي تتوفر فيها تلك القاعدة المادية والتقنية المتقدمة التي لا يمكن ان تقوم الاشتراكية بدونها.
بينما قامت الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية «شبه الإقطاعية-شبه الرأسمالية المتخلفة»، “كأضعف حلقة في النظام الرأسمالي”، حسب فيض التنظيرات اللاحقة لتفسير وتبرير قيام الثورة.
ووفقاً لنظرية “لينين” حول: “إمكانية انتقال شعوب الاتحاد السوفياتي المتأخرة إلى الاشتراكية.. دون المرور في مرحلة الرأسمالية، ” أي “اجتياز مرحلة الرأسمالية بدون رأسماليين”.
ومن المشاكل التي واجهت ثورة أكتوبر، وغيرها من الثورات، في مثل هذه الحالات: أن وجود القوى الطليعية الثورية، وسيطرتها على السلطة، لم يكن مترافقاً بوجود قوى منتجة متقدمة بمستواها، ولا بالقاعدة المادية العلمية والتقنية المتطورة المطلوبة.
والسؤال الذي طرح إذ ذاك، هل يخضع ثوار أكتوبر لذلك الواقع، والتصنيف الآلي لمراحل التطور الاجتماعي، ويسلمون ثورتهم للبرجوازية، لتتولى هي إنجاز المرحلة الرأسمالية، تاركين للزمن المجهول، والأجيال اللاحقة، مهمة التغيير الاشتراكي القادم، ليعودوا هم، وجماهيرهم الكادحة، خلال هذه الفترة الزمنية غير المحدودة، إلى نير الاستغلال الرأسمالي السابق واللاحق؟ والجواب، بالطبع وكما يعرف الجميع، كان ثورياً وحاسماً، وقد تجسد ليس فقط في ثورة أكتوبر الاشتراكية الأم، بل في جميع الثورات الاشتراكية اللاحقة في العالم بأسره، التي حققت إنجازات تقدمية هائلة في معظم المجالات، وبوتائر سريعة، تفوق مثيلاتها في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
لقد حضرنا بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر، معرضاً ضخماَ، في موسكو، يعبر عن منجزات الاتحاد السوفياتي المتطورة في كافة الميادين، حيث قيل وقتها أنه تم إنجاز القاعدة المادية والتقنية للشيوعية، التي سيتم البدء في الانتقال إليها، بعد نجاح المرحلة الاشتراكية، وتوزيع بعض المواد الأساسية مجاناً، على المواطنين كالحليب وغيره.
ثم تعثرت المسيرة لاحقاً، فقيل “بالاشتراكية المتطورة”، كمرحلة انتقالية من الاشتراكية إلى الشيوعية.
ولذلك، نسارع هنا إلى القول أن (الردة الحالية) لم تكن قدراً محتماً، لو توفرت القيادة الثورية الاستراتيجية الواعية في الاتحاد السوفياتي، وأن إجهاض التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، وبلدان أوروبا الشرقية، لا يعود لمسألة اختصار المراحل المذكورة، رغم الصعوبات الهائلة المتعلقة بذلك، بحيث يجب أن تعود تلك البلدان –حسب منظري الرأسمالية والمرتدين الجدد-إلى الرأسمالية، التي يعتبرونها “نهاية التاريخ”، أو التطور انطلاقاً منها كمرحلة، إلى المرحلة الاشتراكية الجديدة، حسب بعض المنظرين الآخرين الانتهازيين المتهافتين، الذين مازالوا يعتبرون أنفسهم اشتراكيين.
ولكن الزلزال الذي ضرب تلك التجارب يعود لأسباب كثيرة جداً معقدة ومتداخلة، لا مجال لاستعراضها هنا، لعل من أهمها خرق وغياب البعد الديمقراطي للاشتراكية، وعدم استثمار الثروات الطبيعية البترولية والغازية الهائلة، التي يتهافت عليها الأمريكان في مكونات الاتحاد السوفياتي السابقة، وسباق التسلح المرهق، وتحمل أعباء ضخمة لمعونات دول العالم الثالث التقدمية.
أما بالنسبة لتجربة حزبنا الخاصة، والتي ربما تتشابه، بشكل أو بآخر، مع تجارب أخرى عربية تقدمية في مصر والجزائر واليمن الديمقراطي، وبعض بلدان العالم الثالث، التي تبنت الاشتراكية، فقد كان الوضع أكثر صعوبة وتعقيداً، حيث انطلقنا من قاعدة صغيرة جداً، أكثر تخلفاً من روسيا الشاسعة عشية ثورة أكتوبر، بالإضافة إلى عامل خاص وبالغ الخطورة: هو واقع التجزئة في وطننا العربي.
وكذلك وصول الحزب إلى السلطة عن طريق حركة عسكرية، وليس بثورة شعبية، وضعفه الشديد في تلك الفترة، وافتقاره لشروط الحزب الثوري المؤهل. وقد عانينا أيضاً، من تفاوت الوعي داخل الحزب بالذات، بين النواة القيادية الطليعية والقاعدة الحزبية الهشة، التي أعيد (تجميعها) على عجل بعد انقلاب 8 آذار العسكري (الثوري)، والتي اشتكت، لأول مرة في تاريخ الحزب، بعد حركة 23 شباط (فبراير) 1966، من عدم تمكنها من اللحاق بحركة القيادة، التي بادرت لإنزال نشرة داخلية لمعالجة تلك الحالة، هذا ناهيكم عن وضع القوى المنتجة الهزيل، حيث كان عدد أفراد القوات المسلحة في سوريا، مثلاً، أكثر من عدد النقابيين المنتسبين للاتحاد العام للعمال.
وكنا نقول، في ذلك الحين، أننا كطليعة اشتراكية نقوم بعملية (مقلوبة)، أي نعمل من خلال خطط التنمية، على (خلق) الطبقة العاملة –كماً ونوعاً- وزيادة وتيرة تطور القوى المنتجة بشكل متسارع، لإيجاد أداة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التقدمية (التي كنا نسميها إشتراكية في ذلك الوقت)، وكانت القناعة السائدة حينئذ، لدينا ولدى كافة القوى التقدمية في العالم، أنه بالإمكان في مرحلة المد الاشتراكي العالمي، اختصار مراحل التطور و(لا نقول حرقها) في المستويات المادية-الاقتصادية عامة، من تصنيع، ثورة زراعية.. إلخ، بتوفير الرساميل والدعم المادي والعلمي والتقني من المنظومة الاشتراكية السابقة.
-صحيح أننا أخطأنا في تقدير المراحل –كما جاء في نقدنا لتجربة الحزب- بحيث كنا، كما كان سائداً في تلك المرحلة، نعتبر أنفسنا في حالة ثورة إشتراكية، ونتحسس من الأصدقاء السوفيات، وغيرهم من البلدان الاشتراكية السابقة، إذا لم يوافقوا على ذلك في البيانات المشتركة التي كانت تصدر عن اللقاءات بيننا وبينهم، وذلك –رغم علمنا- أن الاشتراكية لا يمكن ان تتحقق بصيغتها المتكاملة إلاّ في إطار الوحدة القومية.
والحال أن المراحل متداخلة في وطننا العربي المتخلف والمجزأ، والذي لا زال يعاني من استعمار بعض أجزائه، وفي مقدمتها فلسطين.
ومع التسليم بأن المرحلة وطنية ــــ قومية ديمقراطية أساساً، إلاّ أن فشل وعجز البرجوازيات العربية عن إنجاز مهام تلك المرحلة، ألقى مسؤوليتها على عاتق تحالف العمال والفلاحين ومجمل الكادحين، بقيادة طلائعها الاشتراكية، هذا التحالف الذي هو أيضاً، وفي الوقت ذاته، أداة المرحلة الاشتراكية اللاحقة، وبهذا –يبدو لنا- أن وحدة الأداة الثورية، في المرحلتين، شكل عاملاً نوعياً في تداخلهما، وتبني نظرية (حرق المراحل) السائدة إبان وجود المنظومة الاشتراكية، أو على الأقل اختصارها ودمجها، بحيث تجلى –عملياً- وعبر التحولات التي تمت، ما نسميه بالثورة القومية الديمقراطية-الاشتراكية المتداخلة. وهذه سمة خاصة، وهامة جداً، في وطننا العربي المجزأ بالذات، أي أن التحالف الثوري للكادحين هو الذي يحقق مهام المرحلتين المتداخلتين، المتلاحقتين المذكورة.
-وكما جاء في تقرير المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي(6): “…فعندما تكون هناك قوة ثورية قائدة لا تتخلى عن مركزها القيادي للبرجوازية لمجرد أن المرحلة: مرحلة تحرر وطني، ولو طبقت مثل هذه القاعدة لما وجدت ثورة أكتوبر في الاتحاد السوفياتي نفسه..”، خاصة وأن البرجوازيات العربية عجزت –كما ذكرنا- عن إنجاز مهام تلك المرحلة، وحولت الإستقلالات الوطنية القطرية من الاستعمار المباشر إلى (دول) تابعة للرأسمالية العالمية والاستعمار الجديد.
وأذكر بهذه المناسبة، واقعة عملية معبرة عن الوضع الذي كنا نواجهه في تلك المرحلة، إذ كنت في زيارة لقواعد الفدائيين في أغوار الأردن في عام 1968، وكانت إحداها في قصر لأحد الإقطاعيين الأردنيين، الهارب هو وأمثاله، من المنطقة للعيش في الخارج، ولذلك تطرقت في حديثي، تلك الليلة، مع الرفاق الفدائيين حول هذه الظاهرة متسائلاً: هل يجب تسليم هذا القصر والمزرعة الواسعة (لصاحبها) الإقطاعي بعد النصر والتحرير؟ بحجة أن المرحلة –نظرياً- (مرحلة تحرر وطني)، ويعود الفدائيون، الذين حرروها، والفلاحون الفقراء في المنطقة، ليخدموا فيها (كمرابعين وأجراء)؟ أم يجب تسليمها لهم، وتحويلها إلى مزرعة تعاونية، يتولون استثمارها وإدارتها بأنفسهم ديمقراطياً؟ وبالطبع، كان نهج الحزب إذ ذاك، ولا يزال، الأرض لمن يحررها ويخدمها، ولا يجوز أن نظل أسرى التقسيم الآلي للمراحل، ونقع في فخه بأي حال.
-ونحن لا ننكر، أننا لم ننجح في تحقيق كل ما كنا نتمناه، من تبني سياسة (حرق المراحل) التي كان دافعها ومحركها حب الوطن والأمة، وطموح جيلنا إلى تحقيق المشروع العربي الوحدوي الديمقراطي الاشتراكي الحضاري في حياته. ولكن يبدو، بحكم وضع الوطن العربي، وظروفه، والتركيز الإمبريالي الصهيوني عليه، أن هذه المهمة التاريخية الكبرى تحتاج لأجيال أخرى متلاحقة، أكثر ثورية ووعياً، ونضال قومي شامل ومتواصل.
ويجب الاعتراف، أيضاً، أن (قلق) الطليعة الثورية، قد يدفعها، أحياناً، إلى عدم التفريق بين المثل الأعلى والإمكان، واعتماد الأساليب (الإدارية) الذاتية والفوقية، في محاولة قسر الواقع وتغييره، بدلاً من التحليل العلمي لهذا الواقع، ومرحلة المهام المطلوبة، وفقاً لوضع ومدى استعداد قوى التغيير الشعبية، التي يجب إشراكها ديمقراطياً بكل ذلك.
كما لابد من الموازنة، جدلياً، بين التطلعات والطموح والشعارات الثورية، وبين متطلبات التحقيق، والقناعة بأن الرغبات الذاتية، لا يمكن أن تتحول مهما بلغت من النبل، إلى بديل للقوانين العلمية الموضوعية، ولكن ومع فشل “كومونة باريس” التي شكلت محاولة أولى في العالم لحرق المراحل، لأسباب كثيرة، لا مجال لذكرها هنا، حيث انقضت عليها كل القوى الإقطاعية والبرجوازية في فرنسا وأوروبا، فإن (ماركس) لم يستنكرها، بل أشاد بها، كنهوض ثوري “يطال عنان السماء”، وأعطت دروساً كبيرة للسوفيات، لاحقاً.
ولكن –ومع ذلك كله- فلولا ذلك (النهج الاشتراكي)، والروح الثورية المتحفزة، وخطط التنمية الوطنية الحديثة، التي وضعت، ونفذت في مراحل النهوض السابقة، بعد حركة 23 شباط 1966 –على الخصوص- كان يستحيل تحقيق تلك التحولات الاقتصادية والاجتماعية التقدمية التي نمت –وبسرعة قياسية- في كافة مجالات الحياة، وخاصة تلك المشاريع الاستراتيجية الكبرى –كسد الفرات- واستثمار الثروات الطبيعية وطنياً: كالبترول والفسفات.. إلخ، لأول مرة في المنطقة، التي شكلت قاعدة هامة في القطر العربي السوري، حصنته –حتى الآن- من التكيف المطلوب مع متطلبات وشروط (التسوية التصفوية) رغم التخريب (المنهجي) الذي مارسه المرتدون منذ انقلابهم على الحزب في 13 تشرين الثاني 1970. وهكذا يبقى السؤال مطروحاً، حول إمكانية اختصار و(حرق) مراحل التطور المتداخلة في وطننا العربي بالذات؟
والجواب، في رأينا، ينقسم إلى شقين:
الأول: يتعلق “بالبنية التحتية”، والثاني: “بالبنية الفوقية”.
فبالنسبة للشق الأول: لقد برهنت الثورة العلمية والتقنية الحالية العاصفة على إمكانية اختصار، وتسريع المراحل، في كافة مجالات البنية التحتية، المادية أساساً، وحتى في معظم الفروع الاقتصادية: الصناعية والزراعية والحيوانية.. إلخ. (مثال: تعدد المواسم الزراعية في العام الواحد، وتحسين نوعيته، وكمية الإنتاج، وكذلك الحال في مجال الثروة الحيوانية.. إلخ)، والإصلاح الزراعي، وتأميم المؤسسات الرأسمالية الاقتصادية الكبرى…إلخ.
أما في مجال “البنية الفوقية”، وتكوين الانسان الجديد بالذات، فالأمر يختلف بالطبع، كون التفسير هنا، بالنسبة لحزبنا، ليس مجرد انعكاس آلي فوري لتغيرات البنية التحتية، التي تعتبر –مع ذلك- شرطاً لذلك التغيير.
إذ مهما كانت رغبة الزوجين الذاتية، نحو الطفل، مثلاً، فلا يمكنه الزواج والإنجاب والحصول على التعليم العالي في مرحلة الطفولة، كونه يخضع لقوانين الطبيعة المعروفة التي يمكن، ويجب، تحسين شروطها فقط. فالزمن هنا عنصر أساسي غير قابل للتجاوز، ولابد من أن يأخذ أبعاده المطلوبة، ولكن الأمر الواجب في هذا المجال: هو تنظيم الوقت بدقة، واستغلاله بشكل علمي كامل، لتحقيق التغيرات الاجتماعية المنشودة.
*وخلاصة القول: فإنه، ورغم التعثرات السابقة، التي تعود لنقص الوعي، والظروف الموضوعية غير الملائمة، لازال مطلوباً، وبإلحاح شديد، من القوى الحية في وطننا العربي خاصة، وبلدان العالم الثالث عامة، إيجاد المعادلة العلمية الملائمة، بين جدلية البنية التحتية والبنية الفوقية، والعمل الثوري المخطط، لاختصار المراحل في كافة المجالات المادية التحتية، التي يمكن تسريع إنجازها، بفعل المعطيات العلمية والتقنية الحديثة، بما يسرع بدوره إنجاز التغيرات التقدمية المطلوبة في بنية المجتمع، الأمر الذي يستوجب بناء أحزاب ثورية متحالفة في جبهات وطنية ديمقراطية عريضة، وأوضاعاً ديمقراطية شاملة، تساعد على تحقيق الوحدة الوطنية الراسخة، وإشراك الجماهير المنظمة المعبأة الواعية في إنجاز هذه المهام التاريخية المنقذة، وإلاّ فإن استمرار الأنظمة الحالية، الخاضعة لمؤسسات الرأسمالية الدولية (كالبنك العالمي-وصندوق النقد الدولي)، وإتفاقية التجارة العالمية.. إلخ، ونهجها الرأسمالي الطفيلي الوحشي التبعي المدمر، سيزيد الشقة تباعداً، بيننا وبين البلدان الصناعية الغنية المتقدمة، بحيث نتواجد –معاً- جسدّياً فقط، في هذا العالم، لأن الزمن ليس واحداً بالنسبة لراكب الحمار وراكب الصاروخ، ونقع-مع معظم شعوب العالم (النامية- أو النائمة في هذه الحالة) في مستنقع عبودية عالمية جديد، لا مثيل له في التاريخ.
هوامش:
1)- “دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب” الجز
ء الأول/ ص 13.ص 18.
2)- المصدر ذاته، العوامل والأسباب الأساسية التي أدت إلى سقوط سلطة الحزب ص (138).
راجع ذلك مفصلاً في: “دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب: جزء “العوامل والأسباب الأساسية التي أدت إلى سقوط سلطة الحزب” (ص 138-139).
3)- ننصح بقراءة الجزء الخاص “بعثمان بن عفان” من “العبقريات الإسلامية” –المجلد الثالث- للأستاذ عباس محمود العقاد…
الذي يمكن أن نستخلص منه: صورة المستجدات الاقتصادية الاجتماعية، والدلالة على كيفية انتعاش وتكون الطبقة الارستقراطية السابقة والبرجوازية الكبيرة الجديدة، وآليات ومراحل (الانقلاب)، وتحويل الرسالة والخلافة الشورية إلى ملكية وراثية استبدادية “ملك عضوض”، مناقضة لروح الإسلام، وكيفية وإمكانيات الحيلولة دونه، ونكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة والوقائع والصور التي تعبر عن ذلك، والمأخوذة من الكتاب المذكور).
فلقد بدأ الخلفاء الراشدون يدركون تلك التغيرات الجديدة، ويتوجسون شراً من آثارها السلبية على المجتمع الإسلامي العادل، ويحاولون تلافي ذلك ببعض الإجراءات والآليات الوقائية والزجرية المعروفة.
«ومن كلام أبي بكر في معارض شتى أن الدنيا موشكة أن تغير منا النفوس ما لا يحمد عقباه، ومن كلام عمر وعمله في أيامه جميعاً ما ينم على حذر كهذا، أو أشد، من خطر الدنيا على نفوس الأقطاب الكبار، فضلاً عن (الناس العاديين)، ومن وصايا أبو بكر لعمر “وهو يجود بنفسه الأخير: احذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله (صلعم)، الذين انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ لنفسه، وإن منهم لحيرة عن زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله».
ومن أقواله، «وهو على فراش الموت، يعظ ويحذر عبد الرحمن بن عوف (الصحابي المعروف): والذي نفسي بيده، لأن يُقدَّم أحدكم فتضرب عنقه خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غداً أول ضالً بالناس يميناً أو شمالاً. لا تضيعوهم عن الطريق. يا هادي الطريق جرت!».
وكان عمر يدرك كل ذلك مسبقاً، لهذا وضع بعض الآليات والتدابير الاحتياطية، والقواعد التنظيمية والوقائية المبتكرة الرائعة، التي تتفادى تلك الاحتمالات الخطيرة، مثال:
– استمرار “استبقاء كبار الصحابة إلى جواره في المدينة، ” ليحميهم من احتمالات الانحراف، “وكان يثني من يسأله منهم الخروج للغزو والجهاد، بمعذرته الشهيرة: أن له في غزوه مع رسول الله ما يكفيه ويبلغه، وهو خير من الغزو اليوم، ثم يقول له: خير لك ألا ترى الدنيا ولا تراك”.
-«محاسبة الولاة، في كل موسم حج، لمراجعتهم وسماع أخبار الناس عنهم» وتغييرهم، أحياناً، حتى بدون جريرة، كي لا يفتتن الناس بهم، أو ينتشوا هم بنجاحات السلطة…إلخ.
-«حظر عمر على المقاتلين أن يملكوا الأرض والعقار، وأبقى الأرض لأبنائها في البلاد المفتوحة، وإذا أسلم أحد الذميين أُخِذت أرضه ووزعت بين أهل بلده، وفُرِض له العطاء. وكان غرضه أن تبقى لأهل البلاد موارد ثرواتهم، وأن يعتصم الجند من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدَّعة والاشتغال بالثراء والحطام، وربما أغضى عن كثير في سبيل الإعانة على تعمير البلاد بأهلها» وهكذا هو أحد الفروق الهامة جداً بين الرسالة والاستعمار.
.. وكان ينوي في آخر أيامه [تصحيح النظام الاقتصادي، وعلاج مشكلة الفقر والغنى، على نحو غير الذي وجدها عليه. فقال: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء”. حيث يمنع الإسلام الترف، وكنز الذهب والفضة، ويأمر بإنفاق المال في المنافع والمرافق، “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” كما جاء في الآية القرآنية…”].
وقد تم (الانقلاب) تدريجياً، إبان خلافة عثمان، بالتحول مع الزمن من “وثبة النبوة، إلى ثقة الخلافة، إلى سلطة الملك”. كما يقول العقاد، الذي لا يعزو ذلك (الانقلاب) إلى شخصية عثمان بالذات، بل إلى التطورات الاقتصادية-الاجتماعية المستجدة بعد الفتوحات الإسلامية الواسعة، والغنى الفاحش الذي أصاب عدداً من الشخصيات الإسلامية الكبيرة النافذة.
وقد عبّر الخليفة عثمان في إحدى خطبه عن هذا الواقع، بقوله:
«إن ما تبتلى به هذه الأمة قدر واقع لا يدفع، وإن فتنة الدنيا طغت على النفوس طغيانها الذي لا تجدي فيه الحيلة أو المحاولة…». وذلك تعبيراً عن عجزه واستسلامه في آخر الأمر، وهو الشيخ الذي قارب الـ 80 عاماً.
ويروى [أن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه، فقال: “قد صارت إليك بعد تَيْم، وعدّي، فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار”. فانتهره عثمان، وأخرجه مطروداً من عنده]، حيث كان أبو سفيان (وهو زعيم الطلقاء) يخلط بين النبوة والملك، فيقول للعباس:
«لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً»، وينظر إلى مال الفيء بين يدي رسول الله، فيقول للرسول (صلعم): “لقد أصبحت أكثر قريش مالاً”]
[ورغم طهارة عقيدة عثمان ونزاهة نفسه، الذي سلم من شر ما في “الأموية”، فإنه لم يسلم من ميراث الأموية بأجمعه].
[فكانت –كما يقول العقاد- له نظرة إلى الإمامة قاربت أن تكون نظرة إلى الملك، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة” مَالك ولبيتِ مالِنا”؟ وقال في خطبته الكبرى، يرد على من آخذوه بهباته الجزيلة في إيتاء ذي القُربى، على رواية الطبري،: “فضل من مال، فَلِمَ لا أصنع في الفضل ما أُريد، فَلمَ كنتُ إماماً؟”].
[ويقول محمد بن سيرين: «كثر المال في زمن عثمان، فبيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم”]
-وحسب العقاد، دائماً، [كانت التجارة العالمية محتكرة بـ 20- 30 بيتاً من بيوت التجارة العريقة في مكة والمدينة (أغلبهم من قريش)، “فليس من المبالغة أن يقال عنها أنها كانت تمتلك الملايين، وتُعمِل الفؤوس في خطامِ الذهب والفضة (…) حيث كانت أرباحهم معدناً خالصاً أو عملة مقبولة في كل جهة من جهات العالم يوم ذاك”].
– ومن الأمثلة على بعض (مليونيرات) تلك الفترة، الذين يعتبرون (مليارديرات) كبار بحساب هذه الأيام، نذكر من الصحابة:
- عبد الرحمن بن عوف، الذي قال، رداً على أحد المسلمين (الذي تساءل مستنكراً عن وضعه الجديد وثرائه الهائل، إذ ذاك): «ابتلينا بالضَّراء فصبرنا، وابتلينا بالسَّراء فلم نصبر». [وقد خلف ذهباً يُقطع بالفؤوس حتى تَمْجَلُ لأيدي الرجال (أي حتى تكل). وترك ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس، وقُسِّم ميراثه على ستة عشر سهماً، فبلغ السهم ثمانين ألف درهم، (أي ما مجموعه مليون ومائتي ألف درهم)، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً، ويتاجر فيكسب من التجارة مئات الألوف…]…
- [وقد مات الزبير بن العوام عن خمسين ألف ألف ومائتي ألف] (أي: 50,200,000 خمسين مليون ومائتي ألف درهم).
- وكان طلحة بن عبيد الله يَغِلُّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالسراة عشرة آلاف ديناراً، وأنه باع أرضاً لعثمان بسبعمائة ألف]
صحيح أنهم كانوا كرماء جداً، ومحسنين، ولكن من أين لهم كل هذا؟!!!
ولم تتوفر الظروف المناسبة والوقت اللازم للإمام علي، لإعادة تقويم الانحراف، وفرض نهج الرسالة الإسلامية، ومواصلة طريق أبو بكر وعمر، وتطويرها وتعميقها، وفقاً للمعطيات المستجدة، إذ كيف لهذه الطبقة الارستقراطية، والبرجوازية المتنامية المترفة، أن ترضى بذلك، وتقبل بخلافة علي المتقشف الصارم الفقير”، الذي رهن سيفه ليطعم عياله؟! ولعلّ انتشار بعض العبارات الشهيرة، إذ ذاك، تعطي صورة عن العقلية التي كانت سائدة في تلك المرحلة، مثل: «الصلاة وراء علي أقوم والطعام على مائدة معاوية ألذ وأدسم» و«قلوبنا معكم، وسيوفنا عليكم..».. إلخ.
وهكذا، تبدو صور الصراع الطبقي عبر التاريخ، حيث بدأت تظهر الانقسامات في المجتمع الإسلامي، والتنظيمات والفرق السرية المعارضة، والمذاهب، والطوائف، التي تغطي، في الواقع، قوى سياسية مختلفة، ثم الفتن، والاضطرابات، والانتفاضات، والثورات العديدة المتواصلة، بهذا الشكل أو ذاك، التي حقق بعضها نجاحات محدودة في الزمان والمكان، رغم القمع الوحشي الذي كانت تتعرض له من (الدولة المركزية)، التي عرفت –مع ذلك- استقراراً عاماً في مراحل معينة من صعودها، في العهود: الأموية، والعباسية، والفاطمية، لتدخل بعد ذلك مراحل التشرذم والانهيار، وصولاً إلى عصور الانحطاط المظلمة المديدة، فسقوط الدولة الإسلامية العظيمة.
4)- جاء في تقرير الأمم المتحدة للتنمية في عام 1996 “أن الأغنياء يزدادون غنى، وأن الثروات الحالية للأشخاص الـ 385 (وهم طبعاً من المعسكر الرأسمالي، وبعض أتباعه) الذين تزيد مداخيل كل منهم عن المليار دولار، تفوق الدخل السنوي لكافة الدول التي يعيش فيها 45 بالمائة من سكان العالم (…) حسب تقرير التنمية البشرية لعام 1994″ وأن 32 بالمائة من البشرية يعيشون في ظروف لا إنسانية، ومليار شخص يعانون من الجوع، بينما بلغ الانفاق العسكري العالمي في عام 1992 حوالي 815 مليار دولار وهو ما يمثل دخل 49 بالمئة من سكان العالم مجتمعين” .
-ومن “جريدة الاتحاد الاشتراكي” المغربية 24 /يونيو/ 1996/ أن تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة كشف عن المعطيات الإحصائية التالية:
- إن 20% من سكان العالم يحصلون على 82,7% من مجموع دخل العالم، بينما الـ 20% من سكان العالم الأكثر فقراً يحصلون على 1,4%من دخل العالم، والـ 20% الأقل فقراً يحصلون على 1,9% من دخل العالم، وهناك 20% ثالثة فقيرة تحصل على 2,3% من دخل العالم. وهذا يعني أن 60% من سكان العالم يحصلون على 5,6% من إجمالي دخل العالم..
- إن الدول الغنية تستهلك حوالي 70% من الطاقة العالمية و75% من معادن العالم، و80%من أخشابه و60% من طعامه، وفي الوقت نفسه يوجد حالياً، حوالي 2300 مليون من البشر يفتقدون إلى خدمات الصرف الصحي و1300 مليون لا يستطيعون الحصول على مياه الشرب الصالحة، ناهيك عن انتشار المجاعات في العديد من الدول الإفريقية.
- ويضيف التقرير أن “خسارة دول الجنوب نتيجة الأوضاع غير المتكافئة في العلاقات التجارية والمعاملات المالية الدولية تمثل أضعاف ما تحصل عليه هذه الدول من معونات خارجية، إذ تكلف دول الجنوب حوالي 500 مليار دولار سنوياً (حسب البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، التقرير الثالث عن التنمية البشرية 1992).
-وحسب الأستاذ المهدي المنجرة (الاتحاد الاشتراكي 29 /يناير/1995) وعن إحصائيات أممية رسمية أيضاً، «إن 1500 مليون شخص تقريباً يعيشون في حالة فقر، وأن 20% من سكان العالم يربحون 150 مرة أكثر من 20% من السكان الأكثر فقراً، وأن هناك مليار ومائة مليون شخص يربحون أقل من دولار واحد في اليوم، وأخيراً 20% الأكثر غنى يربحون 80% من الدخل العالمي»
أفليس هذا نوعاً من (دولة الأغنياء العالمية الديكتاتورية) التي تطحن ببذخها المادي السفيه بقية سكان العالم التي يحتاج الرد عليها إلى ثورة عالمية مقابلة، تضم جميع هؤلاء السكان المهددين بالعبودية والفناء، لإنهاض عالم ديمقراطي إنساني جديد، يرتكز على العمل والعدالة والقناعة والبساطة في العيش، إن لم نقل التقشف المادي، في حدود ما يضمن ضرورات الحياة الأساسية الكريمة فقط، مقابل الاهتمام بالغنى الثقافي والفني والروحي الحضاري بصورة عامة، الذي يحقق إنسانية الإنسان.
5)- أذكر هنا واقعة معبرة عن المفاهيم الحزبية الجامدة، التي كانت سائدة في مرحلة الحزب الواحد والقائد، التي لم يكن ممكنا معها، وبدون تجاوزها، بالوعي الديمقراطي الحقيقي، مواصلة ذلك الطريق الحضاري المذكور..
لقد صادف أن كنت ماراً بمدينة اللاذقية في فترة “الازدواجية” يوم احتفال “شبيبة الثورة” باختتام معسكرها الصيفي هناك، وأصرت قيادة فرع الحزب في المحافظة، على أن أتحدث إليهم. وكان من جملة ما قلته (ما معناه): أن الثورة كالشلال الدافق الذي لا مكان فيه للضفادع والطحالب، وحتى عندما ننتصر، ونتحول إلى (دولة)، ونهر أكثر هدوءاً، يجب الحرص على أن يستمر في تدفقه وصفائه وإخصابه، لأن الطبقة البيروقراطية المتبرجزة الجديدة -كما هو الحال في سوريا إذ ذاك- تعمل على تبديده، وتشعيبه، وتغيير مجراه، وتحويله إلى مستنقعات وبرك آسنة، حتى تتمكن الضفادع والحشرات والطفيليات المائية الأخرى، نصب (مقراتها وشباكها) فوقها، فتبيض، وتفرخ، وتتكاثر حتى تغمر اسطح تلك المياه، فلا يظهر من صفائها شيئاً، وتخنق النهر، وتجفف ينابيعه، وتقتل معه (الثورة)) وعوامل الحياة والنمو والتقدم).
وعندما كنت ألح على الشبيبة، أن تحول بنضالها اليقظ، وحيويتها الثورية دون ذلك، حتى لو اضطررت لتغذية ينابيع النهر بالدماء، كان المحافظ وأمين الفرع (وهما للأمانة رفيقين طيبين مخلصين وملتزمين بالحزب)، يبعثان إلي على المنصة، بوريقات تذكرني بأن هؤلاء الشبيبة ليسوا كلهم “بعثيين”، فلا يجوز التكلم معهم بهذه الصراحة عن “النظام الثوري”، [كما كنا نسميه آنذاك]، وكنت بدوري أبادر إلى قراءة تلك الوريقات فوراً على الحضور، قائلاً (ما معناه):
أن الحزب ليس جمعية سرية ولا ديانة باطنية، او امتيازاً لمناضليه، بل عليه واجبات ومسؤوليات أكبر نحو الوطن والشعب ولخدمة مصالح الجماهير. كما أن النظام ليس ملكاً للحزب، بل للشعب بأسره، ومن حق جميع المواطنين أن يعرفوا الحقائق، ويشاركوا في تصحيح الانحرافات وفي ضمان نقاء واستمرارية الثورة”.
– وأن عدم مصارحة الجماهير، ومشاركتها في صنع مصيرها، هو أساس اختناق وانهيار جميع الثورات، وهذا يذكرني حالياً، بما أطلق عليه في الجزائر “لغة الخشب” بعد (التعددية)، التي كانت تستعمل أيام (الحزب الواحد)، والحقيقة أن تلك “اللغة الخشبية” و(الأفكار المعلبة)، قد ترافقت –كما يبدو- مع مفهوم الالتزام الحزبي (اللاديمقراطي) الشبيه (بالمدرسة السوفياتية)، والذي يصعب معه الانطلاق بالتعبير بحرارة وصدق وديمقراطية عن القناعات الشخصية –ضمن الخط العام للحزب والثورة- والخلط بين (صرامة وواجب الالتزام والانضباط الثوري، إبان الثورة والعمل السري المعارض) وبين جعل معادلة (المركزية الديمقراطية) أكثر مرونة، في مرحلة (الدولة)، بإيجاد صيغة أكثر ديمقراطية وشفافية في التعامل مع (جماهير الثورة) ولا نقول مع (أعداء الثورة).
6)- التقرير السياسي ومقررات المؤتمر التقدمي العاشر الاستثنائي (30-10 و12/11/1970، ص 13-14).