حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي
مراجعة وتوسيع وإغناء
الدراسة الأولية حول نقد تجربة الحزب
“مع التركيز على حركة 23 شباط/ فبراير 1966“
(مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس)
– الحلقة الثالثة –
*الإستراتيجية والتكتيك:
من الطبيعي أن كل ما في الكون يتكامل تدريجياً حتى يصل إلى صورته النهائية، وكذلك المشاريع الحضارية، والأهداف الكبرى للبشر والشعوب عامة، لا يمكن أن تتحقق دفعة واحدة. وفي هذا السياق فإن الخطط الإستراتيجية، لتحقيق تلك المشاريع والأهداف، تحتاج إلى زمن وخطط مرحلية ملائمة لذلك.
ومن هنا، فإن التكتيك حق، وواجب، بالنسبة لأصحاب الرسالات الثورية بالذات، لحماية قضيتهم، والسير بها عبر كل المصاعب، والعقبات، والتعرجات، وحقول الألغام، التي يزرعها العدو، وصولاً إلى تحقيق الإستراتيجية النهائية المرسومة، بأسرع وقت ممكن، وبأقل الخسائر والتضحيات.
ولكن لابد من المسارعة إلى التأكيد: بأن التكتيك الثوري الصحيح يجب أن ينبع من الإستراتيجية، ويصب في خدمتها، فلا يكون بديلاً لها، ولا على حسابها، لأن تحقيق الخطط، والأهداف المرحلية المتدرجة، يجب أن يقربنا من أهدافنا الاستراتيجية، لا أن يبعدنا عنها، أو يتحول إلى كوابح وعقبات على طريقها، قد تنسفها من الأساس.
نقول ذلك، للتحذير من بعض المفاهيم المبتذلة السائدة حالياً في وطننا العربي للإستراتيجية والتكتيك، (كالميكيافيلية) المبتذلة، وشعارات الغاية تبرر الوسيلة، وكلاهما سيئان ومجرد ذريعة مضللة فقط، وسيادة السحر والشعوذة مكان العلم، والشطارة والبهلوانية مكان الذكاء، في عصور الانحطاط المظلمة، بحيث يجري تخلي الجهات الضالعة في عملية (التسوية-التصفوية) عن الأهداف الاستراتيجية، والمبادئ والحقوق والثوابت الوطنية والقومية المقدسة، التي لا يجوز أن تمس بأي حال، مهما كانت الظروف، والمقايضة عليها، باتفاقات إذعان تفريطية، هزيلة وخيانية، بالغة الخطورة، يحاولون إيهام الجماهير -كذباً- بأنها مجرد حلول مرحلية على طريق الهدف النهائي، بينما هي في الحقيقة والواقع، تنازل مجاني واضح، وموثق دولياً، عن ذلك الهدف النهائي الثابت في الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي تم إلغاؤه مؤخراً، وعن جوهر الصراع العربي-الصهيوني المصيري، الذي أجمعت عليه جماهير هذه الأمة وقواها القومية الصادقة، منذ بداية الغزو الصهيوني الاستيطاني لفلسطين وحتى الآن، وبذلت في سبيله أغلى التضحيات.
ذلكم هو الفرق بين التكتيك الثوري، الذي اتبعته الثورات الحقيقية الظافرة في الجزائر والفيتنام، على سبيل المثال، و(التكتكة) البهلوانية الرخيصة البائسة، التي يمارسها (فرسان) التسوية التصفوية، التي يحاولون من خلالها استغفال الجماهير، واحتقار ذكائها ووعيها القومي، والضحك عليها، بينما هم في الحقيقة يضحكون على أنفسهم، بل المفروض أن يبكون على أنفسهم، لو بقي في داخلهم شيء من الوطنية، وهم يعرفون خطورة الجريمة التي يرتكبونها بحق الوطن والأمة.
• ولعل من المفارقات المقرفة أن يلتقي بعض دجالي اليسار (المتمركسين) مع بعض دهاقنة اليمين (المتاجرين بالدين)، في التنظير (لنهج التكتكة المقلوب)، ومحاولة تبريره، والتشجيع عليه، منذ طرح مشاريع التسوية، وحتى الغرق الحالي في مستنقع الاستسلام، بتحججهم الوقح، الساقط أصلاً، تارة بواقعة “صلح الحديبية”، الذي عقده الرسول الأعظم والمسلمون مع قريش، وطوراً بواقعة “بريست-ليتوفيسك”، التي عقدها لينين وقادة الثورة البلشفية، مع المحتلين الألمان، حيث كان واضحاً بالنسبة للمسلمين، الذين يحملون رسالة الحياة والمستقبل، مقابل كفار قريش، الذين يمثلون التخلف والجاهلية الآيلة إلى الاندثار، أن “صلح الحديبية” مجرد تكتيك مرحلي صحيح على طريق النصر النهائي المحتم، الذي لم يخل –في البداية- من معارضة بعض (الصحابة)، الذين قبلوه بفعل إيمانهم بالرسول، وثقتهم بحكمته النبوية، بحيث أمّن للمسلمين فترة هامة للتنظيم، والتكوين، والاستعداد، والانتشار، وإمكانية فتح مكة، سلماً، وبكل سهولة، فور نقض بعض شراذم قريش لذلك الصلح، أي إذا كان يمكن للإنسان الفرد ان يستشهد في سبيل الحق، فيمكن أيضاً للثورة أن تتراجع تكتيكياً لتحسين شروطها النضالية، لتعود فتنتصر على العدو، فالمسألة ليست مسألة (تطهر ثوري) بل مرونة ثورية في حدود الجدوى، وإمكانية استغلال الهوامش المتاحة في ظرف معين.
كما كان واضحاً بالنسبة لقيادة ثورة أكتوبر، أن معاهدة “بريست ـــــ ليتوفيسك”، رغم شروطها الظالمة الفظيعة، مجرد تكتيك مرحلي، لابد منه، لحماية الثورة الوليدة، وضمان انتصارها النهائي، كونها تمثل تغييراً نوعياً جديداً لا يُرد في روسيا والعالم بأسره، مقابل وضع ألمانيا القيصرية المهزومة في الحرب العالمية الأولى، ونظامها الإمبراطوري الآيل للانحسار والتراجع والانكماش الحتمي، ربما في أقل من حدود ألمانيا القومية، التي يفرضها المنتصرون كما حدث بالفعل، في معاهدة فرساي، ومع ذلك فلم تخل تلك المعاهدة أيضاً، من معارضة داخل الحزب البلشفي، حسمتها حكمة لينين، “خطوة إلى الوراء خطوتين إلى الأمام”.
وبالتالي فإن هذين (المثالين) التاريخيين الكبيرين، لا ينطبق أي منهما بتاتاً على الاتفاقات التصفوية الحالية الموقعة مع (إسرائيل)، بدءاً من اتفاقية “كامب دافيد” إلى “اتفاقية وادي عربة” مروراً “باتفاقية أوسلو-واشنطن”، وملحقاتها الأخيرة في القاهرة وطابا)، والتي فرضها التحالف الإمبريالي الصهيوني بالقوة الغاشمة على الأطراف العربية، المشتتة، المتهافتة، المتخاذلة، الضالعة في عملية التسوية، في أشد مراحل الانحسار والردة والتبعية، وقهر وتغييب الجماهير وقواها الوطنية المعارضة.
ففي مثل هذه الحالات، التي يختل فيها توازن القوى بشكل فادح لصالح العدو، يجب رفض الخضوع لشروطه، والقبول بالحلول التصفوية المطروحة، واللجوء إلى التشبث بالثوابت، والتركيز على مراجعة وتقوية الذات، ومواصلة النضال الثوري لحشد كل الطاقات والإمكانات العربية الهائلة، الكفيلة –موضوعياً- بقلب ميزان القوى لصالح الأمة، وانتزاع الحقوق الفلسطينية والعربية الثابتة المقدسة، ولو بشكل مرحلي متدرج، ولكن خالٍ من التنازلات والقيود والمقايضات النوعية، وصولاً إلى تحقيق الهدف النهائي العادل، تبعاً لتطور الأوضاع القومية، والظروف الدولية المناسبة.
ونذكر من دروس التجربة الجزائرية –بهذا الصدد- كيف خاض الشعب الجزائري عشرات الثورات والانتفاضات، ضد الاستعمار الفرنسي، منذ بداية الغزو عام 1830، وفشلت لظروف كثيرة معروفة، منها عدم شموليتها، وانعدام التوازن بينها وبين البرجوازية الفرنسية الاستعمارية المصنعة الصاعدة، والأوضاع والظروف العربية والدولية غير الملائمة في تلك المراحل، وتميز تلك الثورات المتلاحقة –رغم ذلك- بإجماع كل قادتها، على رفض الاعتراف بأن “الجزائر فرنسية” بأي حال، وكونها لم تسقط عجزها وفشلها على الأجيال اللاحقة، وتصادر وتصعب نضالاتهم المحتمة القادمة، وصولاً إلى قيام ثورة نوفمبر التحررية الكبرى الظافرة عام 1954، التي تمثلت واستوعبت حصيلة الخبرات الثورية السابقة، وورثت كل إيجابياتها، وتلافت سلبياتها، واستفادت من الظروف العربية والدولية المستجدة الأكثر ملاءمة لمعركة التحرير.
أما الثورة الفيتنامية التي طردت الاستعمار الفرنسي من شمالي البلاد، وقبلت –مرحلياً- بذلك، لتحوله إلى قاعدة انطلاق ثورية ملهمة لملاحقة بقايا الاستعمار الفرنسي، ثم وريثه الأمريكي الأكبر، من الجنوب وتوحد الوطن الفيتنامي في دولة إشتراكية حديثة.
o إذن، بعد التأكيد على مبدأ تحديد المرونة والتكتيك، في الأساليب وطرق العمل، “تبعاً لما يقال”: “لا تكن قاسياً فتكسر ولا ليناً فتعصر” في حدود إطار الإستراتيجية العامة، وحماية التجربة، والمحافظة على ثقة الشعب بالقيادة، دون الانزلاق في الخروج عن ذلك، إلى الوقوع في فخ القوى المعادية، وخسارة القضية والجماهير. يجب التدقيق، ولو باختصار، في بعض جوانب هذه (الإشكالية)، التي واجهتنا، وتواجهنا جميعاً، في مجال التطبيق، وضرورة التفكير المعمّق، والمسؤول، عن كيفية التعامل معها، وحلّها في ممارساتنا العملية المقبلة، ونذكر منها على سبيل المثال:
– خطأ، وخطورة، اقتصار التركيز على المنطلقات الإستراتيجية الكبرى، والأهداف النهائية للثورة فقط، وعدم الاهتمام الكافي بدراسة طبيعة المراحل وإمكانات وأدوات التنفيذ، والتكتيك الثوري المطلوب لذلك، خاصة في مرحلة وجود الحزب في السلطة، وليس في مرحلة التبشير.
وبالتالي خطأ اعتماد (النهج الإرادي) والمبالغات الذاتية- بديلاً لقوانين الواقع الموضوعية.
– (أطروحة) إمكانية وضع إستراتيجية سرية (في إطار القيادة الثورية العليا فقط)، واتباع أسلوب الخطط المرحلية المتدرجة، والتكتيك المرن، الذي لا يكشف الأهداف الحقيقية النهائية، حتى لا يثير جميع الأعداء دفعة واحدة، بل يحيّد من يمكن منهم على الأقل.
مع التذكير بما يعتبره العدو الإمبريالي الصهيوني، واتباعه الرجعيين العرب، من (المحرمات) التي يعني الاقتراب منها التصادم معهم، وفي مقدمتها:
الوحدة العربية + البترول+ (إسرائيل) + التنمية الوطنية – القومية المستقلة الحديثة + التحولات الاشتراكية + دعم القوى التقدمية المعارضة للأنظمة الرجعية.
وكذلك الدعوة إلى استخلاص دروس بعض التجارب السابقة في هذه المجالات: كتجربة محمد علي الكبير+ والتجربة الناصرية + تجربة حزب البعث في سورية + تجربة الجزائر + تجربة العراق أخيراً.
وهل يمكن عملياً مهادنة، أو مسايرة، العدو الإمبريالي الصهيوني وقاعدته (إسرائيل) والرجعية العربية التابعة مثلاً؟ والسكوت عن ممارساتها الخطيرة المعادية للوطن والأمة وقضايا ومصالح الجماهير عامة؟
وماذا سيكون موقف الجماهير في هذه الحالة؟ وخاصة إذا كان البرنامج السياسي للنظام غامضاً وملتبساً ووسطياً، والأهداف الأساسية غير واضحة للشعب؟
ومن جهة أخرى، كيف يمكن والحالة هذه، إجراء تحولات داخلية تقدمية، هكذا سراً وبهدوء، أو دعم قضية فلسطين، أو القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة للأنظمة الرجعية التابعة للإمبريالية والمحمية من قبلها؟ أو التحرك لإنجاز أية خطوات وحدوية تقدمية بين الأقطار العربية المهيأة لذلك؟.. إلخ.
ونذكّر هنا، مجدداً، بتجربة الوحدة السورية-المصرية وجريمة الانفصال، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وعلاقته بدعم الرئيس عبد الناصر للثورة الجزائرية، بالإضافة إلى إقدامه على تأميم قناة السويس، وكذلك بعدوان حزيران 1967 وعلاقته بنجدة مصر للثورة الجمهورية في اليمن، وبدعم حزبنا ونظامه التقدمي في سورية للعمل الفدائي الفلسطيني، الذي أطلق رصاصته الأولى، ضد العدو الصهيوني المحتل، عبر الحدود السورية-الفلسطينية في فجر الأول من كانون الثاني 1965، وباستعادة العلاقات الودية مع عبد الناصر، وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك على طريق إنهاض الوحدة العتيدة، واستثمار البترول وطنياً في سورية، على سبيل المثال لا الحصر.
– وهكذا، ومع التسليم بأن “الحرب خدعة”، وأن من واجب القوى الثورية مخادعة العدو بكل الوسائل التي تساعد في حماية الوطن، وتقريب النصر. لأن المسألة هنا ليست مسألة تطهر ثوري، بل جدوى ونتائج العمل، إلاّ أن المعادلة معقدة جداً، خاصة إذا علمنا أن التحالف الإمبريالي الصهيوني-الرجعي “لن يرضى” عن القوى العربية الثورية، حتى “تتبع ملتهم”، أي التخلي عن القضية الفلسطينية والمشروع العربي الحضاري نهائياً، وهذا يعني خسارة كل شيء: النفس، والثورة، والجماهير، وبالتالي فهوامش المرونة، في هذه المسائل المبدئية الأساسية، التي تشكل محور الصراع مع هذا “التحالف” العدواني، ضيقة جداً، وبالغة الدقة والخطورة…
* الإستراتيجية الثورية، وشروط وإمكانيات التكتيك الثوري، والمشاكل والصعوبات التي تعترض كل ذلك:
لقد حلّل المؤتمر القومي السادس للحزب(1) -كما سنرى في حينه- مخاطر (“السياسة الوسطية”، التي هي سياسية انتهازية بالأساس، لأن أي تهاون مع الرجعية سيؤدي إلى نفرة القوى الطبقية الشعبية من الحزب، وإلى ابتعاده عنها (…) وستدفع بالحزب إلى عزلة حقيقية، فلا الطبقات الرجعية المستغلة يمكن أن تركن إليه، ولا الطبقات الكادحة ترى فيه منقذها.. إلخ”. (…) “مؤكداً على التزام الخط الجذري ودخول معركة التحويل الاشتراكي بعزم وأسلوب ثوريين”).
ومن هذا المنطق الجذري، الذي اعتمده الحزب، على حساب “الخط الإصلاحي اليميني” المرفوض، وضع المؤتمر إستراتيجية ثورية صحيحة، واتخذ قرارات قومية تقدمية هامة جداً، مثل: قرار “الوحدة بين سورية والعراق” اللذين كان يحكمهما الحزب (رسمياً أو نظرياً على الأقل)، فكان أن أجهض ذلك القرار التاريخي، وضرب الحزب في العراق، بعد حوالي شهر فقط من المؤتمر، بقيام “الردة التشرينية” الأولى (تشرين الثاني 1963) (كما سيرد لاحقاً).
وقد تكرر ذلك، بشكل اشد خطورة وأبعد أثراً، بعد حركة 23 شباط (فبراير) 1966)، ونهجها اليساري المتجذر، وتبني الحزب “إستراتيجية حرب التحرير الشعبية” و”البؤر الثورية” في المؤتمر القومي التاسع /أيلول 1966/(2). فضرب الحزب ونظامه التقدمي في سورية بعدوان حزيران/1967 الصهيوني-الإمبريالي قبل الوصول إلى إعادة الوحدة بين سوريا ومصر، ثم بقيام “الردة التشرينية” الثانية في 13 تشرين الثاني 1970/، قبل أن تأخذ تلك الاستراتيجية أبعادها الحقيقية المبشرة، وتثبت جدارتها وجدواها للجماهير العربية، التي ستحتضنها عندئذ، وتمدها بطاقات ومتطلبات الاستمرار والتوسع والتصاعد حتى النصر.
-وهكذا يتأكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه إذا كانت الإستراتيجية الصحيحة شرطاً لابد منه في العمل الثوري، فإنها شرط غير كافٍ، ويرتبط جدلياً بمستلزمات، وأدوات، وإمكانية، تنفيذه واقعياً، والتاكتيكات المرحلية الضرورية لذلك، وهو ما لم يكن متوفراً في التجارب السابقة المذكورة التي ضربت، وأجهضت.
-وفي مجال التوجه الجذري، ومنطلقاته، ومخاطر الوسطية الإصلاحية الانتهازية، يجب إدراك (الحالة الصعبة) التي يواجهها النظام التقدمي، أو الثوري، بإثارة شراسة أعدائه من جهة، وضرورة كسب جماهيره، التي جاء من أجلها أساساً، من جهة ثانية، وضرورة تجسيد تطلعاتها، وتحقيق مصالحها الحيوية العادلة، على طريق استنفارها، ورفع مستوى وعيها، وتجنيدها في مجرى العملية الثورية، والموازنة الصعبة جداً في قطر واحد، وخاصة عندما يكون النظام بفعل (حركة عسكرية ولو ثورية)، يفتقر –في بداياته- وريثما تتضح هويته الحقيقية التقدمية، إلى قاعدة شعبية قوية، واعية، وقادرة على فهم ضرورة المرونة وحدودها، والمناورات مع الطبقات والقوى المعادية، ريثما يتقوى ويترسخ النظام التقدمي الجديد.
وهذه (الحالة) من أهم المشاكل التي واجهت الحزب، وعبد الناصر (في بداياته) على الأقل، وتواجه كل سلطة جديدة (انقلابية)، وحتى ثورية، إذا كانت تفتقر إلى حزب ثوري مؤهل، وجماهير ثورية منظمة واعية. علماً أن الإنجازات التقدمية، والممارسات الشعبية الصادقة، والمواقف القومية المعبرة عن أهداف الأمة، تحقق التفافاً جماهيرياً متزايداً، واستقراراً طوعياً، كما حصل بعد حركة 23 شباط 1966، بعد الإنجازات الداخلية التقدمية الملموسة، وكسب معركة أنابيب البترول مع شركة البترول الإنكليزية العراقية (I.P.C)، والمواقف والممارسات القومية الوحدوية.. إلخ.
وواقع المد الجماهيري الكاسح الذي تحقق بعد قرار تأميم قناة السويس، والذي أدى إلى قيام أول وحدة في تاريخ العرب الحديث بين سورية ومصر عام 1958، وقيام الثورة الجمهورية في العراق في تموز 1958، وهو ما أدى –من جهة ثانية- كما هو معلوم، إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بعد تأميم القناة، وكذلك إلى الإنزال الأمريكي في لبنان، والإنجليزي في الأردن، بعد ثورة تموز 1958 في العراق، والتهديد بالحرب، إذا تعرضت مصالح الشركات البترولية الإمبريالية في العراق لأي خطر، أو إذا توحد العراق مع الجمهورية العربية المتحدة.
-وبالمقابل، فإن بعض المواقف الأخرى، التي يعتبرها أصحابها، من قبيل التاكتيك الجائز والمناورة السياسية الضرورية، كقبول الرئيس عبد الناصر لمشروع “روجرز” المعروف –على سبيل المثال- في صيف 1970، لالتقاط الأنفاس، والتمكن من إقامة جدار الصواريخ المضادة للطائرات قريباً من قناة السويس –كما قيل لاحقاً- والذي رفضه حزبنا وجميع القوى العربية التقدمية في حينه، قد أحدث صدمة كبرى لدى الجماهير الفلسطينية ومنظماتها الفدائية خاصة، ودفعها للانفضاض عن عبد الناصر، بل ومهاجمته علناً في إذاعات الثورة الفلسطينية، التي اضطر لإغلاق محطتها في القاهرة، وانتهت بمجازر أيلول الأسود الدموية، وفاجعة رحيل الرئيس عبد الناصر المفاجئة، ثم هلع الجماهير، وخروجها هائمة باكية، غير مصدقة بأن الرئيس عبد الناصر قد مات.
– كما يجب أن لا ننسى في مجال (الإستراتيجية والتاكتيك) المزاودات (اليسارية المتطرفة-واليمينية الانتهازية)، وخاصة تيارات (الطفولة اليسارية) وإرهابها الفكري من جهة، ومؤامرات القوى اليمينية والرجعية المعادية، التي تستخدم مقولة (كلام حق يراد به باطل)، وحتى تخوفات بعض القوى اليسارية والوطنية والقومية التقدمية الصديقة، بدافع حسن النية والحرص، أو قصور الوعي وضعف الثقة.. إلخ.
وقد حدث هذا –بوجهيه- في معظم ثورات العالم، كما حدث مع قيادة الحزب في سورية والعراق، ومع الرئيس عبد الناصر أيضاً، رغم الشعبية الواسعة التي حققها على المستوى القومي، ويكفي ان نشير هنا إلى مزاودات وتشهيرات القوى الانفصالية السورية والرجعية العربية عامة، حول اضطرار مصر لقبول وجود قوات دولية في سيناء وشرم الشيخ، بعد العدوان الثلاثي عام 1956، كمثال فاقع على محاولات الابتزاز والإحراج الفاجرة المذكورة(3).
-ولكن، ورغم المشاكل والتعقيدات العملية المذكورة، فلا شيء ينفي صحة إستراتيجية الوحدة والتحرير والتقدم، وأن الفشل المؤقت لا يجوز، بأي حال، أن يدفعنا إلى التشكيك بها، والتراجع عنها، ورغم صعوبتها الكبيرة، خاصة وأن كل (البدائل)، المطروحة منذ أكثر من ربع قرن، لم تؤد إلاّ إلى تصفية قضية فلسطين، والقضايا العربية العادلة الأخرى، وحسم الصراع العربي-الصهيوني لصالح العدو، والمزيد من تفتيت الأمة وتخلفها، وهدر تضحيات وجهود أجيالها، وإخضاعها للتبعية الإمبريالية، وتهديد هويتها القومية، وضرب مشروعها الحضاري المنقذ.
لذلك، يجب التركيز على النضال، والبحث لوضع الخطط المرحلية الملائمة، وتوفير شروط وادوات تنفيذها، وكيفيات وإمكانات “التكتيك” المناسب، على طريق الإستراتيجية العامة في إطار توازن جدلية (الخط الصحيح- وكسب الجماهير)، وتفادي ضرب الثورة قبل أن يتصلب عودها، الأمر الذي يحتاج، كما يبدو لنا، لجملة من المتطلبات الأساسية، وفي مقدمتها:
بناء دولة قومية (قاعدية) قوية، وقيادة ثورية جماعية، منسجمة موحدة، ومؤهلة، وموثوقة من الجماهير، ووحدة وطنية طوعية راسخة، تتحقق بالديمقراطية والشفافية، ومصارحة ومشاركة الجماهير، وتربيتها وتنظيمها وتأطيرها، عبر جبهة وطنية ديمقراطية عريضة، تضم كل طلائعها الحية، على أساس ميثاق وطني-قومي ملزم للجميع، وهو ما يحقق، ويضمن، الثقة الضرورية بين القيادة والجماهير، والقاعدة الشعبية الواسعة المتفهمة والملتزمة، بعيداً عن الإحراجات والمزايدات والتشكيك، ويحقق الموازنة المطلوبة، مهما كانت الصعوبات. إذ عندما يكون النظام ديمقراطياً يكون نهجه أكثر عقلانية، ولا يحتاج للمبالغة في طرح الشعارات والمهام التي تفوق الطاقات والقدرة على التنفيذ.
فالوضع المتماسك كالسيَّارة الجيدة القوية، التي يمكن للسائق المناورة بها في الطرقات المتعرجة والمنعطفات الحادة الصعبة، بينما لا يمكن ذلك بسيارة مهلهلة ضعيفة،. سرعان ما تتفكك أجزاؤها المعطوبة، وتتدهور، خاصة في المطبات والطرق الوعرة وغير المعبدة.
– وإننا نعتقد، تبعاً للتجربة العملية المعاشة، أنه من الصعب توفير كل هذه المتطلبات الضرورية في قطر عربي واحد فقط، حتى لو جاء نظامه بثورة شعبية، أو انتخابات ديمقراطية سلمية.
وبالتالي فنحن بحاجة إلى قاعدة وحدوية ديمقراطية راسخة، تضم مصر وسوريا والعراق أساساً، أو قطرين منها -مؤقتاً- على الأقل. وأن تتحقق هذه الوحدة المنشودة، بصورة ديمقراطية واختيار شعبي، طوعي، حر، وترتبط باستمرار بمضامينها الشعبية الديمقراطية الشاملة (الاقتصادية-الاجتماعية، والسياسية)، التي توفر العدالة والحرية وكرامة وحقوق الإنسان، لتضمن لنفسها القوة والمناعة والاستقرار والحماية والتطور، والصمود في وجه جميع المؤامرات المعادية، والإمساك بزمام المبادرة في مجالات الإستراتيجية والتكتيك الثوري المرحلي الملائم، وتجسد المثال الملهم والمنارة المشعة، التي تلتف حولها جماهير الأمة وقواها التقدمية في الوطن العربي بأسره.
كما يجب أن تعتمد سياسة خارجية حرة.. تساعدنا على تحقيق إستراتيجيتنا القومية والإنسانية، وحماية مصالح أمتنا العربية، وتحرص على التعاون النزيه مع جميع دول وشعوب العالم وقواها الديمقراطية المحبة للحرية والعدالة والمساواة والسلم العالمي الحقيقي، وقيام النظام العالمي الديمقراطي المتوازن الذي يحفظ حقوق ومصالح الجميع.
هوامش:
1)- المؤتمر القومي السادس 20 تشرين الأول 1963 ص 230.
2)- مقررات المؤتمر القومي التاسع –المنعقد في النصف الثاني من أيلول 1966.
3)- مذكرات الفريق أول محمود فوزي.