مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس (الحلقة السادسة)

مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس (الحلقة السادسة)

* القيادة الجماعية.. والفردية:

لقد أكد حزبنا، بعد حركة 23 شباط/ فيفري 1966 بشكل خاص، على مبدأ “القيادة الجماعية” كصيغة مثلى لوقاية الحزب والدولة، من مخاطر نزعات التفرّد والاحتكار والديكتاتورية، انطلاقاً من تجربته الذاتية السابقة، ومن التجارب العربية والعالمية الأخرى المعروفة عبر التاريخ القديم والحديث. وهذا لا يعني أن مجرد طرح الصيغ النظرية الصحيحة يمكن أن يحقق الصورة الواقعية المطابقة، التي تجسّد التوازن الديمقراطي الخلاّق في إطار القيادة الجماعية، التي لابد أن يرأسها “أمين عام” منتخب حزبياً في إطار الحزب، أو رئيس جمهورية منتخب شعبياً،في إطار الدولة، في هذا النظام الديمقراطي الحقيقي الشامل؛ وليس في سياق أنظمة (الحزب الواحد) المعروفة،التي كانت القيادات العليا، في معظمها، تجمع بين قيادة الحزب والسلطة في آن واحد.

o وفي إطار توضيح وتحديد هذه المعادلة الدقيقة بين القيادة الجماعية ومسؤولها الأول، بما يحقق أفضل الحصائل التي تخدم مصلحة المؤسسة المعنية في الحزب أو الدولة، خاصة، وجميع المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأخرى عامة، لابد من التسليم أولاً بضرورة وجود مثل هذا القائد أو (المسؤول) الأول في جميع الأحوال، فالباخرة، أو الطائرة، أو “وسائل النقل البرية” –على سبيل المثال- لابد لها من قائد يتحمل مسؤولية إيصالها –مع ركابها- إلى (بر الأمان) أي المحطة المقصودة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بوجود قادة آخرين يمسكون معه بنفس المقود، ويحاول كل منهم دفعها باتجاه مغاير للآخر.

ولكن هذا (القائد) المسؤول لا يختار هكذا اعتباطاً، بل بعد دراسة وتكوين وإعداد وتحضير واجتياز كل الاختبارات اللازمة التي تؤهله لذلك، ثم لا تترك له حرية التحرك العفوي المزاجي، حيثما يشاء، بل وفق خط سير محكم سواء في البحر أو الجو أو البر، وتبعاً لخرائط دقيقة حسب كل حالة، وباتجاه الوصول إلى الهدف المحدد بسلامة.

وبالإضافة إلى كل ذلك عليه التشاور والتعاون مع مساعديه في مواجهة أية مشاكل طارئة قد تعترض طريق الرحلة. والاتصال –عند اللزوم- بقاعدة انطلاقه وما شابهها من محطات الإرشاد والتوجيه، لأخذ المزيد من المعلومات والتوجيهات المفيدة، عند الضرورة، وهكذا…

ورغم أن هذا “المثال” قد يبدو غير منطبق على الحالة التي نحن بصددها، إلاّ أنه يوضح، في الجوهر أن مسؤولية أي قائد لا تعني التفرد المطلق، بأي حال، في أن يتصرف على هواه، بل لابد له من التقيد بأسس معينة مرسومة، والمواءمة بين مسؤولياته الخاصة كقائد، وبين هذه الأسس المذكورة.

وقديماً، كانت بعض القبائل تختار (شيخها) لكونه الأكثر تجسيداً لقيم القبيلة ومثلها العليا، في الشرف والشجاعة والفروسية والحكمة والعدل والكرم والنبل والحرص على مصلحة القبيلة، ككل. كما يمكن القول (بتبسيط شديد) إن الجماعات البشرية، بعد أن تشعبت مصالحها، وتعددت وتعقدت وتداخلت متطلباتها الحياتية المشركة.. إلخ، كونت (سلطة عامة) أو (دولة) تتولى إدارة ورعاية هذه الشؤون العامة المشتركة، وحلها وفق القيم والأسس المتفق عليها بين الجميع، أي خدمة مصالح المجموعة.

أما حالياً، ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين، (ونتكلم عن وطننا العربي خاصة) فقد تحولت هذه (السلطة) التي تقبض أجورها من الشعب لهذه الغاية المذكورة، إلى قوة طاغية للطبقة البرجوازية الطفيلية الهجينة الجديدة الحاكمة، لا تكتفي، فقط، بعدم خدمة مصالح المجتمع وحلّ مشاكله وتأمين شؤونه الحياتية العامة المعروفة، بل أصبحت (تخترع) له مشاكل جديدة، وصعوبات إضافية مركبة، لتهميشه وإبعاده عن المشاركة في شؤون وطنه ومصيره السياسي.. تربكه، وتنغص عليه حياته، وتغرقه في أزمات الفاقة والتعاسة والمهانة والاستغلال والقهر والخوف الدائم من هذه السلطة التي تحولت إلى (قدر متوارث)، بغض النظر عن يافطة النظام: ملكياً أم جمهورياً… (أو جمهورلكياً).

* وفي مجال الحكم الفردي والديكتاتوري، بأشكاله المعروفة عبر التاريخ، وصولاً إلى المرحلة الراهنة، فإن الأنظمة الفردية الديكتاتورية الحالية (القزمة) تحاول (وراثة) كل مساوئ تلك التجارب، والقيام بعملية خلط واسعة مضللة لتبرير وجودها. وتنسب لنفسها، من الفضائل والبطولات والإنجازات التاريخية، ما ليس فيها، والتشبه ببعض أولئك الحكام الفرديين السابقين، الذين قاموا ببعض الأعمال(البطولية) النافعة لشعوبهم، بغض النظر عما أنزلوه بتلك الشعوب وغيرها من مصائب، وصولاً إلى نسبة عدد منهم نفسه للعائلة النبوية بالذات!!!..

ومع التأكيد، مبدئياً ومجدداً، على رفضنا المطلق لأي حكم فردي ديكتاتوري، مهما كان، وإصرارنا على الديمقراطية كنهج شامل في العمل والحياة، وحق الشعب الذي لا ينازع في اختيار حكامه وعزلهم، في إطار نظام ديمقراطي حقيقي؛ فإننا نود توضيح بعض النقاط الهامة والسمات الدقيقة التي تميز بين بعض الأنظمة الديكتاتورية (المتعددة الدرجات)، وبين القادة و(الزعماء) التاريخيين العظام الذين يجري الخلط المتعمد فيما بينهم، ويدعي بعض الديكتاتوريين المتخلفين الحاليين التشبه بهم –كما أسلفنا-.

=ونذكر، على سبيل المثال فقط، من الزعماء الثوريين الكبار، الذين ساهموا في تغيير مجرى التاريخ باتجاه الحرية والعدالة والتقدم، وقادوا شعوبهم إلى النصر: “لينين” و “ماو تسي تونغ” و”هوتشه منه”.. الذين لم يمارسوا النهج الفردي الديكتاتوري،والغطرسة الاستهلاكية السفيهة، بل ناضلوا من خلال مؤسسات حزبية، وقيادات جماعية ديمقراطية، في إطار إستراتيجيات وبرامج سياسية مقرة من تلك المؤسسات المختصة، ووفق نهج ثوري محدد، حيث التقت عبقرياتهم المتميزة، ووعيهم السياسي العميق، ونظرتهم الإستراتيجية الشاملة، مع كفاءات رفاقهم الغنية واستعداد شعوبهم، وفي لحظة ثورية ناضجة معينة من التاريخ، فانصب كل ذلك في مجرى النضال الثوري الظافر.

وقد تميز هؤلاء، قبيل وإبان الثورة، وبعد تحقيق النصر وقيام النظام الاشتراكي الجديد، بحياة خاصة (مثالية) ملهمة، إذ كانوا قدوة مجسدة للقيم الثورية في التفكير العلمي الوقاد، والإقدام الطليعي، والتضحية والعطاء، وبساطة العيش، والزهد في المأكل والملبس، والتواضع، ومحبة الرفاق وجماهير الشعب الكادحة. وكانوا يقومون بأدوارهم في السلطة من خلال القيادة الجماعية، ويتجلى (تميزهم) الخلاق دائماً بالعطاء، وليس بالأخذ.

-فقد رفض “لينين” –على سبيل المثال- استخدام الأجنحة القيصرية الفاخرة الموجودة في قصر “الكريملين” واكتفى هو وزوجته المناضلة، بشقة جانبية صغيرة بسيطة، شبه عارية إلاّ من سرير حديدي تقليدي قديم للنوم ومكتبته العامرة برفوفها الخشبية العادية جداً، ومكتب للعمل، ثم مطبخ، كان يستخدم أيضاً كغرفة للطعام تتوسطه طاولة خشبية مغطاة (بمشمع) رخيص، مع أواني للطبخ وصحون وملاعق شعبية جداً، وبعضها من الخشب، مما كان يستعمله المواطنون العاديون إذ ذاك، بينما تتراكم الأواني الذهبية والفضية الخالصة، في مطابخ القصر وصالونات الطعام الباذخة،التي لم يستعملها قط، بل بقيت “كمتحف” للشعب، ولاستقبال بعض الزوار الكبار من قادة العالم.

-كما يعرف جميع المهتمين، الكثير من حياة “هوتشه منه” المتقشفة البسيطة، و(شاروخه) الشهير المصنوع من بقايا العجلات المطاطية القديمة، وتواضعه وزهده، وقيادته الفذة للثورة التحررية في الشمال والجنوب ضد أكبر قوتين استعماريتين إمبرياليتين: فرنسا ثم أمريكا، وصولاً إلى تحرير الوطن الفيتنامي وتوحيده.

-كما يعرفون الثورة الاشتراكية الكبرى التي قادها “ماو” ورفاقه، وتلك المسيرة التاريخية الطويلة، عبر الصين الشاسعة بصحاريها ووديانها وجبالها وأنهارها؛ وهم يبذرون الثورة في أعماق الجماهير، ويخوضون المعارك المتواصلة مع النظام الرجعي السابق المدعم بالإمبريالية، وصولاً إلى “ينان” القاصية الحصينة، التي شكلت قاعدة لتجديد انطلاقة الثورة حتى النصر، وما تكبدوه خلال ذلك من تضحيات وخسائر باهظة، ولاقوه من أهوال ومصاعب تكاد تفوق الخيال، عاشها ماو تسي تونغ مع جميع المناضلين دون تمييز.

=ولا يفوتنا أيضاً، وبعيداً عن المقارنة مع الآخرين، أن نذكر بحياة الرسل بالذات، وبأصحابهم المؤمنين، وذلك في إطار محاصرتنا للحكام الطغاة الذين يتظاهرون بالإيمان لتضليل الجماهير، وفضحنا لكل أنواع الأنظمة الفردية الديكتاتورية، على تفاوتها، ووضع الحدود الفاصلة القاطعة بين التميز الإنساني الإيجابي الخلاق الذي يتفاعل مع محيطه، ويصب في مصلحة وطنه وشعبه والإنسانية جمعاء؛ وبين التسلط الفردي الاحتكاري المسعور الخانق لتطور وتقدم المجتمع.

ورغم قناعتنا بأن هؤلاء الحكام المستبدين لا يتعظون بشيء سوى مصالحهم الطبقية الأنانية الخاصة، إذ لا دين ولا وطن لهم سوى المال والتسلط، فإننا نستعين بتسليط بعض العبر التاريخية الساطعة لإيقاظ وعي الجماهير واستنهاض هممها لمقاومة الطغيان، بتمثل واستيعاب معاني تلك المثل الرسالية والإنسانية الثورية التي تعودوا على ترديدها بشكل روتيني شكلي مسطح.

وهل ثمة أفضل من استلهام سيرة الرسول العربي العظيم التي بلغت أقصى قمم السمو والكمال الإنساني الذي ليس له مثيل، لإيقاظ النيام الذين خدّرهم (القمع المركب) المديد، وكاد يقتل إنسانيتهم بالذات؟ والتي يمكن –بل يجب- على جميع المهتمين (بتثوير) هذه الأمة، العودة إليها، في مراجعها الموثقة، إذ لا يمكننا هنا سوى التذكير بها فقط، بالإشارة إلى جوهرها وتجسيداتها في حياته المتواضعة البسيطة في المسكن والملبس والمأكل والتعامل مع الناس، التي تشكل قدوة تفوق كل وصف، منها عدم التوصية بالخلافة من بعده لأحد من آل بيته، ومشاورة أصحابه وعامة المسلمين، وقبول آرائهم الصائبة، في كل ما ليس فيه حكم ديني منزل، من شؤونهم وأمور دنياهم.

وكذلك التذكير بحياة أصحابه من الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر وعلي، البالغة البساطة والعفة والتقشف والزهد بمتع الحياة المادية، والتزامهم بالشورى والعدل والمساواة، وحرصهم الفائق على ضمان حرية وكرامة الناس، ليتبين المواطنون الفرق بين العظمة الحقيقية والسمو الإنساني الرائع، وبين (العظمة) المصطنعة الفارغة التي تنطوي على الوضاعة،والسقوط الإنساني المريع…

وخلافاً لما ذكرنا، فثمة أنواع من (التفرد) المتميز، منها مثلاً نموذج “نابليون بونابرت” الذي كان من إفرازات الثورة الفرنسية البرجوازية 1789، التي حولها إلى إمبراطورية تراجعت لاحقاً عن البلدان الأوروبية التي احتلها، إلى حدودها الوطنية، بعد أن نشرت (عدوى) الثورة البرجوازية فيها، بينما استمرت في معظم المستعمرات خارج أوروبا. وهو رغم عبقريته الفذة، وبطولاته الحربية، وإستراتيجيته البعيدة المدى، التي تجمع بين القوة والدهاء، وإنجازاته الوطنية المتقدمة المعروفة، فإنه يبقى بالنسبة لنا، ديكتاتوراً استعمارياً غزا وطننا، وأول من أثار طرح “الدولة اليهودية” في فلسطين، وشجع اليهود على ذلك، وأنزل بنا وببقية البلدان التي غزاها الكثير من المصائب والأهوال.

= ومنها – مع الفارق- نموذج “ستالين” الذي لا ينكر دوره الهام في ثورة أكتوبر الاشتراكية، وفي ترسيخ وتطور الاتحاد السوفياتي الهائل في مختلف المجالات، وفي الانتصار على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وقيام “المنظومة الاشتراكية”، وانتعاش حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار القديم في بلدان العالم الثالث؛ إلاّ أن تفرده بالسلطة، وتحوله إلى ديكتاتور عنيف، أدى بالمقابل إلى العديد من المآسي الإنسانية التي نزلت بالحزب الشيوعي السوفياتي وشعوب الاتحاد السوفياتي عامة، وكانت في صميم أسباب الأخطاء والانحرافات التي نخرت روح تلك التجربة الاشتراكية الأولى، التي كانت مصدر تعاطف وأمل كادحي العالم بأسره، وأنهكت جسمها، وسهلت تفككها وانهيارها الكارثي الحالي.

= وثمة نماذج أخرى من الحكم الفردي المطلق، أشد خطورة ورعباً، كالنظام (الهتلري-النازي) في ألمانيا ونظام (موسوليني) الفاشي في إيطاليا، كمثالين (لقمة) الديكتاتورية في هذا العصر، الذي يتجاوز الحاكم الفرد إلى تحويل الشعب والدولة بأسرها إلى مطرقة هائلة لسحق الشعوب الأخرى.
ورغم الإنجازات المادية الضخمة التي تحققت في ألمانيا وإيطاليا، إذ ذاك، في شتى مجالات الاقتصاد، والتصنيع الحربي منه على الخصوص، والتقدم العلمي الكبير، في هذه الاتجاهات أساساً، إلاّ أن التنظيم الصارم للمجتمع، وفق “الأيديولوجية” النازية والفاشية، حوّل المواطنين إلى (آلات) في ذلك المركب الاقتصادي الصناعي-العسكري العنصري العدواني الذي أصبحت عليه الدولة.

ومن خلال هذه النظرة العرقية المتغطرسة التوسعية التي (تعبد القوة)، وتستهين بالحياة البشرية المقدسة، وغياب البعد الديمقراطي الإنساني تماماً، انتهى الأمر إلى إضرام الحرب العالمية الثانية، بأهوالها المعروفة، وإلى تدمير ألمانيا وإيطاليا في الوقت ذاته.

وإذا كانت إمكانية تحليل وتفسير قيام واستمرار الأنظمة الديكتاتورية في البلدان المتخلفة تبدو سهلة، نسبياً، فإن ذلك يبدو أكثر صعوبة واستعصاء على الفهم في البلدان المتقدمة، كألمانيا التي يتمتع شعبها بالذكاء والإبداع، وأنجب أعداداً هامة من خيرة العباقرة من فلاسفة وعلماء وأدباء وفنانين في شتى فروع الفكر والمعرفة والثقافة والفنون…إلخ، وتعتبر في طليعة الدول المتقدمة في أوروبا.

وهل ثمة أخطر من مجتمعات تفرغ من مضامينها (الإنسانية)، وتعبأ (بأيديولوجية) التعصب العنصرية، وأوهام التفوق على الغير واحتقاره، وعبادة القوة المادية الغاشمة؛ وتحقن بمزاعم وأساطير (رسالات) وطنية عرقية زائفة تخفي وراءها الطموحات الحقيقية للأنظمة الديكتاتورية البرجوازية في التوسع والهيمنة والسيطرة والاستعمار؟ وخاصة في شعب عامل نشيط وشديد الانضباط كالشعب الألماني.

وإذا كنا لسنا هنا بصدد دراسة هذه (الظاهرة) التي تحتاج لجهد كبير، وإطلاع كاف على الدراسات الكثيرة التي تمت بهذا الشأن من قبل الجهات العلمية والسياسية العالمية المهتمة، فإننا نتعرض لها في حدود إلقاء بعض الإضاءات على موضوعنا المحدد.

ومن المؤكد أن ثمة عوامل كثيرة متداخلة ومعقدة، تاريخية وراهنة ومستقبلية، لعل من بينها شعور الشعب الألماني بالغبن والمهانة بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي الجائرة. وكذلك في مجال التنافس مع الإمبراطوريات الاستعمارية الأخرى، كإنجلترا وفرنسا، وتغذيته (بالحق) في التوسع فيما تعتبره ألمانيا (المخنوقة) مجالاتها الحيوية في دول الجوار الأوروبي، وخارجها، خاصة تلك التي تضم أعداداً هامة من السكان ذوي الأصل الألماني.. ثم جهل الشعب الألماني بالشعوب الأخرى، وتصويرها له، وكأنها من أنواع بشرية منحطة، لا تستحق الحياة، وفق “قانون: البقاء للأصلح”، بل “للأقوى” عملياً.

ولا يجوز أن ننسى، بأي حال، دور البرجوازية الغربية عامة، في دعم الحزب النازي في ألمانيا والحزب الفاشي في إيطاليا، بهدف التصدي للحركة الشيوعية القوية الزاحفة في البلدين، وقطع الطريق على وصولها إلى السلطة، بما يعني قلب التوازن في أوروبا والعالم بأسره، ومن ثم ضربها وتصفيتها.

وليس عبثاً، أن يلصق الحزبين باسمهما (صفة الاشتراكية الوطنية)، وأن يعتمدا على استقطاب وتنظيم (البروليتاريا الرثة) خاصة، بشكل ميليشيات مسلحة آلية عمياء وشديدة الخطورة، بتمويل من القوى البرجوازية الكبيرة، داخل البلدين بالذات، كما هو حال البرجوازيات مع بعض الحركات التي تستغل الدين. علماً أن تلك البرجوازيات الغربية التي تخلت عن (ديمقراطيتها العزيزة) لتحقيق ذلك الهدف المذكور، دفعت هي بدورها ثمناً باهظاً في الحرب العالمية الثانية –كما ذكرنا- كي تعيد (عفاريت) النازية والفاشية التي أطلقتها بنفسها إلى القمقم، وأخذت درساً بليغاً، جعلها تسارع إلى التشجيع على تصفية بقية الأنظمة الديكتاتورية (الأضعف) في أوروبا: كإسبانيا والبرتغال واليونان. وتكتفي (بتصدير) الديكتاتوريات المتخلفة إلى مستعمراتها السابقة، لحماية مصالحها هناك.

وبالطبع، فإن تحويل المجتمع الألماني إلى ما يشبه الآلات الميكانيكية (الروبوت)، عبر تلك (الميليشيات) المذكورة، بالإضافة إلى تنظيم الأجيال الجديدة منذ الطفولة إلى الجامعة، وتعبئتها بتلك (الإيديولوجية) النازية و(المثل العليا) للأمة الألمانية، التي تهون في سبيلها كل التضحيات، وتبرر الإقدام على سحق الشعوب الأخرى (المعادية)، وخلق جيش جرار محترف حديث، شديد الانضباط وبالغ التسلح، وتغذيته بروح الغزو والاحتلال، كواجب وطني (مشروع) يجعل هذا المجتمع بمثابة القنبلة النووية الهائلة الأكثر خطورة وفتكاً في التاريخ.

ذلك أن مثل هذا (التنظيم الآلي) البالغ الشدة، الذي (يقولب) الأجيال، ويمسخها، ويفرغها من إمكانية التفكير الحر والمناقشة والتساؤل والنقد والبعد الديمقراطي الإنساني، ويمركز ذكاءها وقدراتها في بؤرة واحدة، هي تقديس النظام القائم وعبادة الزعيم الأوحد، والتسابق على التضحية لتنفيذ أوامره، يولد طاقات تدميرية خارقة، كما لو تم مركزة أشعة الشمس عبر محور حارق وحيد.

ولعل من أهم الأسباب، التي تتيح إنشاء مثل هذه الأنظمة الفاشية المرعبة، إقدام القوى الديكتاتورية على ما يمكن تسميته (استئصال عقل وضمير الشعب)، عبر تصفية القوى الثورية والديمقراطية في المجتمع. هذه القوى التي تتولى فضح حقيقة الفاشية، بتوعية الجماهير على مخاطرها، وتنظيمها، وحشدها لمقاومتها وإحباطها. وهذا من (الدروس) الهامة التي (حفظتها) بنجاح لا ينكر الأنظمة الديكتاتورية في وطننا العربي، ومارستها على أرضية همجية وقرون الظلام والتخلف والاستبداد.

* ولاستكمال الصورة، في إطار الحرص على التمييز الواجب، وتجنب الوقوع في خطأ التماثل الظالم، لابد أن نشير أيضاً، إلى بعض الزعامات الثورية والوطنية التقدمية التي ظهرت في بلدان العالم الثالث، من قادة حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار المباشر القديم، أو قادة الثورات الشعبية، أو الانقلابات العسكرية (الثورية) ضد الأنظمة الرجعية التابعة؛ والتي اعتمدت نظام الحزب الواحد، الذي كان سائداً في المنظومة الاشتراكية خلال تلك الفترة، والذي لم يكن غالباً في تلك البلدان – باستثناء كوبا الاشتراكية التي لا تزال صامدة في وجه الحصار الإمبريالي المطبق حتى الآن- سوى مجرد واجهة أو أداة للحكم الفردي، مع الاعتراف أن بعضها حقق –رغم ذلك- إنجازات تقدمية هامة من مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، في مجالات التنمية الزراعية والصناعية وديمقراطية التعليم والصحة وغيرها.

ونذكر منها النموذجين الأكثر بروزاً في وطننا العربي والعالم الثالث، وهما: النظام الجزائري، إبّان وجود الرئيس الراحل هواري بومدين (رحمه الله) والنظام المصري إبّان مرحلة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (رحمه الله) الذي اتخذ أبعاداً قومية وحدوية وعالمية تقدمية متميزة، ظهر خلالها الرئيس عبد الناصر كأكبر زعيم عربي في هذا العصر.

ورغم عدم حلّ المسألة الديمقراطية بمفهومها الشامل الصحيح –إذ ذاك- والتركيز على جانبها الاقتصادي الاجتماعي فقط دون الجانب السياسي، والسلبيات والأخطاء التي نجمت عن ذلك، وسهلت قيام الردات اللاحقة؛ لا يجوز حشر تلك الأنظمة التقدمية، التي كانت تعمل لمصلحة الوطن والشعب، في إطار الردات اللاحقة، أو في إطار الأنظمة الديكتاتورية (التقليدية) التي استعرضناها، أو الخلط بينها – بأي حال- وبين الأنظمة الديكتاتورية الحالية المرتدة والتابعة، التي انقلبت عليها ونسفت كل منجزاتها التقدمية السابقة، في وطننا العربي والعالم الثالث، لأسباب عديدة، حللناها مراراً، في أدبيات حزبنا كما سنرى في حينه.

• وإذ نصل إلى المرحلة الحالية، يجب أن نوضح أننا لا نستعرض هذه المسألة، كترف نظري مجرد، بل لأنها مطروحة علينا بحدة، كون وطننا العربي يرزح منذ زمن طويل، وقد يبقى كذلك إلى أمد غير قصير، تحت وطأة أنظمة حكم فردية مطلقة فاسدة هجينة عقيمة، سواء: ملكية أو (جمهورية) (جمهولكية) وراثية، طحنت، وغيبت الجماهير ومنظماتها المدنية، وهدرت ثرواتها الطبيعية، وتخلت عن مصالحها الوطنية والقومية المقدسة، وأوصلت أوضاع الوطن والأمة إلى حالة التفكك والإفقار والتبعية، والسقوط في شبكة العبودية الإمبريالية الصهيونية المتجددة.
– فبعد أن ميزنا باختصار الفروق النوعية بين الزعيم التاريخي المبدع الذي يعمل في إطار جماعي ديمقراطي محدد، والديكتاتورية فرداً حاكماً ونظاماً، حتى في (أفضل) حالاته، ودرجاته، وصولاً إلى أحط صيغ الديكتاتورية وأشدها قزامة وخطراً – كما هو الحال في العالم الثالث- الذي ابتلي بأمثال (رقيب الجيش الفرنسي السابق)، “الإمبراطور بوكاسا”، الذي بلغت وحشيته حد الإقدام على أكل لحوم أطفال (شعبه)!!!

نتساءل، كيف استطاعت الأنظمة الفردية المتلاحقة التحكم بمصائر الأمم والشعوب، وملايين البشر عبر التاريخ بمراحل وأطوار مختلفة، ومازالت متواصلة حتى الآن!!! هُدرت فيها قيم الحرية والكرامة وأبسط حقوق الإنسان (الذي كرمه الله وخلقه حراً)، بل انتُهك حقه في الحياة بالذات.
ثم كيف يجب التخلص من هذه الظاهرة المرضية القاتلة في وطننا العربي، والوقاية من احتمالات تكرارها إلى الأبد، لصالح أنظمة ديمقراطية إشتراكية إنسانية حضارية، تنبثق من إرادة الإنسان الحرة الواعية، ومن أجله كهدف وغاية لأي نظام.

إذ لا شيء في هذا الكون، يبرر تعذيب وإهانة وقتل الإنسان، فكل مخالفة للقوانين الديمقراطية المعتمدة يجب أن تتم المحاكمة عليها، وفق هذه القوانين، بقضاء عادل، مستقل، ومكتمل كافة الشروط ووسائل حق الدفاع بالطبع؛ ذلك أن أي مس بإنسانية الإنسان هو مس بإنسانيتنا جميعاً، كما جاء في الآية الكريمة: “.. من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”، التي تجسد قمة التعبير الذي ليس له مثيل عن هذه الجدلية الحضارية الإنسانية العليا.

– ولعل ظاهرة (الوثنية) الجديدة، أو ما يسمى بـ (عبادة الشخص)، حيث يمعن الديكتاتور وحاشيته في تضخيم الذات، والنفخ فيها، تدل على (قزامة) داخلية، ومركب نقص متحكم يزداد احتداماً وتأزماً بقدر ما يتطلب من (مبالغة) لا متناهية ومتواصلة في مظاهر التعظيم الفارغ والتمجيد والمديح، الذي يبلغ حد (التأليه)، وتتناسب عكساً مع حقيقة (عظمة) الشخص، وطرداً مع شعوره الداخلي العميق والكامن، بالصغار الحاقد الذي يتحول إلى ما يشبه (السعار) الذي لا يعرف الارتواء، ويسعى، عبثاً، للتغلب عليه، والهروب من كابوسه، بالمزيد من الديكتاتورية واحتكار سلطة القرار، وتركيز كل شيء في شخصه، واختصار الوطن والشعب في ذاته، في الوقت الذي تتقلص فيه مساحة سيادة هذا الوطن والشعب، ويغرق تدريجياً في مخاطر الكوارث والضياع.

بينما تتجلى البطولة التي تغمر قلب الإنسان، وتصبو إليها كل النفوس الحرة الأبية، بغير ذلك، وبعكسه تماماً، تضحيةً وتواضعاً ونكراناً للذات، مقابل رفع شان الوطن وتمجيده. فعندما يكبر عز الوطن، ويعلو قدر الأمة، وتتحقق أهدافها وتطلعاتها المشروعة، يكبر معها كل المواطنين، وتتحقق المعادلة الخلاقة لتحقيق الذات الفردية من خلال تحقيق الذات الجماعية، ويخلد الأبطال والمناضلون الذين ساهموا بذلك. وتاريخنا العربي حافل بمثل هؤلاء الرموز الذين تضيء أسماؤهم كالنجوم سماء ليلنا الحالي المظلم.

ففي هذا الإطار الجماعي يتجلى تميز البشر الإيجابي الحقيقي المبدع كما يلاحظ، حتى في البلدان الغربية الليبرالية، حيث تتفاوت قدرات القادة الذين ظهروا فيها، وأهمية أدوارهم في خدمة شعوبهم، التي انتخبتهم، وتقديرها لهم، دون أن يسخروا ذلك ليتحولوا إلى ديكتاتوريين (خالدين على عروش السلطة).

* وأمام ظاهرة الخنوع، الذي يخيم بكابوسه الذليل والثقيل على معظم –إن لم نقل جميع- أرجاء وطننا العربي. يجب أن نتساءل عما إذا كان (القمع المركب) المزمن، الذي تسلطه أنظمة الاستبداد على الجماهير، قد أضعف مناعة هذه الجماهير الوطنية والقومية وأصابها بما يمكن تسميته بـ (داء السيدا) السياسية؟

ثم هل يمكن أن (تُروَّض) الجماهير، خاصة في أزمنة الانهيار والانحطاط والهزائم والعجز والإحباط واليأس والقنوط، على الخنوع والاستسلام للأنظمة الفردية الديكتاتورية، وتنتكس إلى ما يشبه (مرحلة الطفولة)، حيث يعتمد الطفل القاصر بكل شيء على أبيه، وينظر إليه وكأنه صاحب القدرة الكلية على تلبية طلباته ورغباته وحمايته، وهكذا تنظر إلى (الديكتاتور العبقري الملهم)، الذي ترخي بعجزها وأثقالها وهمومها (ولا نقول آمالها) عليه، وتغرق في الاتكالية واللامبالاة والانسحاب من مسؤوليات الحياة السياسية العامة، مخدرةً، مسلوبةَ الإرادة، ونائمةً على أضاليل الأوهام (ولا نقول الأحلام) التي تطلقها وتغذيها أجهزة النظام.

وفي هذا السياق يمكن فهم (سر) اختراع الألقاب الجديدة التي لم يطلقها هؤلاء الحكام –عبثاً- على أنفسهم (كالأب القائد)، و(كبير العائلة) مثلاً، أو نسبة البلد بأسره إليهم.. إلخ.

وهل يمكن -والحالة هذه- أن (يعتاد) الإنسان على العبودية والذل والظلم والفقر ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين، فيتبنى العبد عبوديته، والمسخ مسوخيته؟! وخاصة في البلدان الإسلامية التي حولها حكامها أنفسهم إلى (ظل الله) على الأرض خلافاً لجوهر الإسلام الذي جاء ليحطم الأصنام والطغيان، ويكرم الإنسان ويحرره من عبودية البشر إلى عبادة الله الواحد، وتحميله مسؤولية مصيره.

-وكما ذكرنا سابقاً، فإن من أخطر الوسائل التي تتيح لهذه الأنظمة الفاشية الوجود والاستمرار، هو تصفية من لا تستطيع تدجينهم واحتواءهم من المثقفين، الثوريين منهم على الخصوص، بين سجين وشهيد ومحاصر وملاحق وشريد. لأن ذلك يعني استئصال (دماغ) الأمة، بحيث يسهل على الديكتاتور التحكم بها على هواه، فلا تسمع إلاّ صوته، ولا ترى سوى صورته وتماثيله المنتشرة في كل مكان (كأصنام الجاهلية)، الأمر الذي لم نعهده من القادة الحقيقيين، وهم أحياء، في أي بلد من العالم.. كما ينسب المستبدون كل مشروع إلى أنفسهم، وينقشون اسمهم عليه سواء تم قبل وجودهم في السلطة أو بعدها، وكل حق بسيط يحصل عليه المواطن في راتبه الطبيعي، أو شؤونه الطبيعية الأخرى، وصولاً ربما إلى إشعار (الرعية) أن الماء الذي تشربه، والهواء الذي تتنفسه، والشمس التي تشرق في السماء، هي بعض (مكارمه وعطاياه ومنته وأفضاله) عليها. فقد (تعلموا) من (التاريخ الديكتاتوري) (والثوري) أن الطليعة الثورية هي الجهاز العصبي للأمة، وبمثابة الخميرة الضرورية لإنضاج العجين، والصاعق المفجر لكتلة (الديناميت). وهكذا.. ركزوا على هذه الطليعة، حتى أرهقوها، وأوقعوها بالعجز حتى الآن. فارتاحوا بذلك على (عروشهم)، يستمتعون (بلذائذ) الحكم. وهذه (الحالة) تشكل ظاهرة خطيرة جداً، تحتاج إلى المزيد من التحليل والتوضيح، ونسفها من الجذور لأن الحكم الفردي يقتل حتى القائد الحقيقي ( كما حصل لعبد الناصر) الذي يجعل من نفسه بديلاً للشعب، فينوء بالعبء، ويسقط ما لم يبادر إلى تدارك الأمور قبل فوات الأوان، ويلجأ إلى الشعب عبر الانتقال إلى النظام الديمقراطي الجماعي.

ناهيكم عن (الحاكم الديكتاتوري) المزيف، الذي يستغل (احتكاره) للسلطة لتدمير البلد تماما، لذا يجب تربية الطلاب والمواطنين على النزعة العقلانية، والتساؤل والروح النقدية، وعدم قبول أي شيء إلاّ بالإقناع العقلي، وروح المسؤولية ورفض الاتكالية، والتشبث بالديمقراطية الحية كنظام للحياة بأسرها.


* ولقد حاول حزبنا، بعد حركة 23 شباط/فيفري 1966 على الخصوص، حل معادلة القيادة الجماعية ودور الفرد بشكل جدلي متوازن.

وبداية نقول أن حزبنا قد تميز عن بعض الأحزاب العربية الحاكمة والأحزاب الشيوعية عامة، بعدم وجود “لجان ترشيح” تقدم لائحة واحدة محددة (متوافق) عليها مسبقاً، إلى المؤتمرات الحزبية، لانتخابها، أو ما شابه ذلك من الأساليب (اللاديمقراطية)، التي كان يتم فيها تعيين القيادات، بشكل أو بآخر، وتساهم في تكريس دور القائد الفرد (الأمين العام)، بل كان كل شيء يتم بالانتخاب الديمقراطي السري المباشر في جميع المؤسسات والمستويات من الفرقة وقيادتها حتى المؤتمر القومي والقيادة القومية، ثم الأمين العام والأمين العام المساعد للحزب، وتوزيع الرفاق على المكاتب الحزبية المختصة.

وكان مفهومنا للقيادة الجماعية أنها تضمن التميز في القدرات والعطاءات الفردية من جهة، والتكامل بين الكفاءات والإمكانات المتفاوتة داخل القيادة من جهة أخرى، كما لا تلغى المسؤولية الفردية المحددة لكل رفيق في إطار المهام الملقاة على عاتقه؛ وتحول، في الوقت نفسه، دون التفرد والنزعات الديكتاتورية والأبوية والوصائية، وكذلك ضد الاتكالية والكسل والتهرب من المسؤولية، بإلقاء كل شيء على الرفيق (المتميز) الذي يجب أن لا يشجع، هو أيضاً، هذا الميل (البطريركي) المدمر، من خلال المشاركة –بشكل أو بآخر- (كما كان يحصل أحياناً في بعض المراحل السابقة) في تغذية هذا الوهم (الأسطوري) لدى بقية الرفاق، بقدراته الخارقة بحيث يسقطون (أحمالهم) عليه فيغرق، ويغرق الحزب معه، ويتهرب بقية الرفاق من المبادرة، والتفكير والجهد والتطور والمسؤولية الفردية والجماعية، حيث كان يظهر عجز (بعض القادة) في المنعطفات الحادة، التي مر بها الحزب والوطن، كما أوضحناه في (دراسة أولية لتجربة الحزب).

وكانت هذه المعادلة تتجسد بشكل متوازن ورائع، إبان مرحلة النهوض، وحتى مرحلة “الإزدواجية”، وفي مجتمعاتنا التي أريد لها ان (تتعود) على زعامة الحاكم الفرد، ولم تتربَ على ممارسة الديمقراطية الحقيقية التي تحتاجها بإلحاح شديد، كنقلة حضارية لابد منها في حياتها، لتعيش عصرها، وتتولى مسؤولية صنع مصيرها، لم يكن في القيادة من يقبل دور الزعيم المذكور، ولكن رغم تطبيق الديمقراطية في مستوى الحزب والمنظمات الشعبية عامة، وفي المجالات الاقتصادية والاجتماعية، إلاّ أننا لم نصل إلى تطبيقها بكامل أبعادها السياسية المطلوبة، ولم يمهلنا الزمن القصير جداً جداً، (خلال 16 شهراً بين شباط 1966 وعدوان حزيران 1967)، لإنضاج واستكمال مشروعنا الحضاري، حيث أجهضت تجربة حزبنا قبل الأوان.

وقد بلغ الحرص على ترسيخ العلاقات الموضوعية داخل الحزب- رداً على المرض السابق حول حلول الذات محل الموضوع- حداً كبيراً، مما أدى أحياناً إلى الإخلال بتوازن المعادلة، حيث أن التواضع الزائد والزهد في ممارسة السلطة والظهور، أضعف دور الشخصية القيادية البارزة، وضرورة أخذ مكانها الجديرة به في الحزب والسلطة، وأمام الجماهير، كرمز أول ضروري، ولابد منه في كل مكان وزمان، ولا يتناقض مع القيادة الجماعية، كونه يتم في إطار ديمقراطي محدد يضمن عدم الانزلاق للتفرد.. فالتسلط والاحتكار وعبادة الشخص.

ذلك أننا كنا نسير في طريق مشروع عربي حضاري شامل لاستكمال تحرير وتوحيد هذه الأمة في دولة ديمقراطية إشتراكية إنسانية، فلم نتهافت على المسائل الشخصية أمام عظمة وجلالة المشروع وما يحتاجه من جهود كبيرة متواصلة وزمن طويل.

– ومع الإشارة إلى مخاطر المساواة الآلية، في المنعطفات الحادة والمخاطر التي يتعرض لها الحزب والدولة، خاصة في حالة وجود تفاوت كبير في الوعي بين أفراد القيادات المسؤولة، وظهور بعض التطاولات، ومحاولات الإرهاب والابتزاز والتركيز على الرفاق المتميزين، بغية إرباكهم وشل مبادراتهم الإنقاذية.. إلخ. فقد كنا، ومازلنا، نتصور العمل الجماعي الديمقراطي الملتزم، الواقي من الفردية والبيروقراطية القاتلة، على صورة الفرق الموسيقية الكبيرة، بحيث تنبثق من الإستراتيجية العامة المعتمدة ديمقراطياً، للحزب والدولة، برامج مرحلية تنفيذية في جميع المجالات والمستويات، تكون بمثابة (النوتة) الموسيقية التي توضع امام كل عازف. ويكون دور قائد الفرقة (الأوركسترا) أن يضبط الإيقاع، ويضمن الانسجام بين العازفين، وعدم الخروج عن اللحن المحدد، بما يؤدي إلى تحقيق الإلهام المقصود من (السمفونية).

وبذلك نحول أيضاً دون الانزلاق- ربما بحسن نية وبدافع الغيرة الشديدة على الخط بالنسبة للبعض، أو الميول البيروقراطية بالنسبة للبعض الاخر- إلى الاحتكار المدمر، إذ ليس باستطاعة أي (قائد)، مهما كان، أن يوزع نفسه وأعضاء جسده على كافة القطع الموسيقية العديدة، في (عملية سمفونية منفردة) مستحيلة، والحصيلة معروفة في مثل هذه المحاولات.. فوضى واختلاط انتحاري للجميع.

فالقائد الحقيقي المبدع، أو المسؤول في الحزب والدولة، في أي مستوى كان، ليس الذي يتفانى بالعمل لأطول ساعات ممكنة فقط، وبمنتهى الصدق والجدية والإخلاص، بل الذي يعرف أيضاً كيف يكتشف إمكانات مساعديه والذين يعملون معه وتحت إمرته، فيتيح لهم ممارسة أدوراهم وتفتح طاقاتهم، ويحرِّض لديهم روح المبادرة المبدعة المسؤولة، لأن المهام الضخمة التي تواجه وطننا وشعبنا لا يمكن أن تتحقق قطعاً ما لم يساهم الشعب بأسره في النهوض بذلك، علماً أن العمل الجماعي المنظم هو احد أبرز سمات هذا العصر.

* والمهم، بعد هذا كله، هو كيف نتفادى الديكتاتورية، و(نلقح) الشعب ضدها أصلاً، ونحصنه إزاءها، ونقوي مناعته الإنسانية الطبيعية ضد الخنوع والذل والاستكانة، ونغذي فيه روح الحرية والكرامة، وتحريض قوى الرفض والثورة على الظلم والديكتاتورية، وتربية الشعب عامة على ممارسة حق الرقابة، وعزل أية قيادة تخرج عن المهمة المحددة في الدستور والقوانين الديمقراطية المعتمدة، بالأساليب الديمقراطية السلمية، طالما أمكن وكان ذلك متاحاً، أو بأية وسائل أخرى بما في ذلك حق وواجب الانتفاضة الثورية لإسقاطها، هذا الحق المؤسس دينياً ودولياً، (وفق قوانين الأمم المتحدة المعروفة)، والمفروض كواجب ملزم على المؤمنين، حسب العديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال بعض الخلفاء الراشدين العظام.


وهنا لا نجد أية غضاضة أيضاً، من الاستفادة من تجارب الشعوب والدول المتقدمة الحالية في هذا المجال.

• وخلاصة القول، لابد من برنامج علمي شامل لإعادة تربية المجتمع بأسره من الطفولة وحتى الشيخوخة، يؤكد على التفكير العقلاني، ونهج التحليل والتساؤل والنقد وحق وواجب المراقبة، والحرص على فهم القوانين والخلفيات الحقيقية المحركة للظواهر والكامنة وراءها، وترسيخ التقاليد الديمقراطية كنهج شامل في العمل والحياة، لتصبح نمط تفكير وممارسة، تصون المجتمع من الطغيان وتحقق إنسانيته، وتجعله يهب ضد كل من يحاول حرفه أو اختراقه، عبر روح المسؤولية الفردية والجماعية المنسجمة. ((فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).

* وفي ختام هذه المقدمة، التي لابد من الاعتراف أنها طويلة جداً، وقد تكون مزعجة للقراء، ولكنها مقدمة غير تقليدية، ليس القصد منها وضع العربة قبل الحصان، وتبرير أخطاء تجربة حزبنا التي حللناها بقوة وصراحة وصدق، بل تجد تبريرها في نظري بضرورة البدء بطرح بعض القضايا والمسائل الهامة، ليس فقط لإلقاء الأضواء على (تجربة حزبنا) والإشكالات التي واجهتها وتسهيل فهمها، بل لأنها ما زالت مطروحة حسب قناعتي على القوى الوطنية الديمقراطية في وطننا العربي، وتحتاج للمزيد من الدراسة والتفاعل، للوصول إلى التصور الموحد أو المتقارب الصحيح، الذي يجنبنا العديد من المزالق والأخطاء، وينير ويسهل لنا طريق المستقبل.

فأنا أعلم أني (لا أخترع البارود)، ولكنني أذكر فقط ببعض الإشكالات التي واجهتنا، ومازالت تواجه –حسب قناعتي- حركة التحرر العربي خاصة، والعالم الثالث عامة، وأعرف أني غير قادر على إعطاء كل الأجوبة المطلوبة، بل أطرحها صادقاً، مع اعتقادي أن عدداً كبيراً من المناضلين العرب يفكرون بذلك، ومن خلال جهدهم الجماعي قد نصل إلى حلول مقبولة.

ومن البديهي أن أحداً لا يملك إجبار الآخرين على قراءة ما يكتب، مهما بدا له ذلك مفيداً، وإن كان يتمنى أن يقرأه الكثيرون.. وفي مقدمتهم بالنسبة لي، الرفاق الحزبيون وأصدقاء الحزب، وجماهيره الكادحة التي ولد من رحمها، ويحمل قضيتها، ويناضل معها، ومن أجلها، لانتصار المشروع العربي الوحدوي الديمقراطي الاشتراكي الحضاري، الذين أرجو أن يجدوا في الإطلاع على هذا “الكتاب” الإجابات الصادقة الواضحة على كثير من تساؤلاتهم القائمة، وأن يثير فيهم أيضاً تساؤلات خلاقة جديدة لخدمة نضالهم المتواصل حتى النصر.

عن ابراهيم معروف

شاهد أيضاً

مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس – الحلقة العاشرة -

لمحة موجزة عن نضال الحزبمنذ المؤتمر التأسيسي 1947- وحتى الوحدة 1958(1) نضال الحزب في الساحة …