كثيرون لا يعلمون مدى خوف الديكتاتور،
هو يخاف فعلاً من الشجعان حتى ولو كانوا مجموعة من الفتيان،
فكيف وهم شباب ممتلئون قوة وتصميماً وإرادة.
يعتقلهم،
يريد ان يكبت على صوتهم وروحهم، ان يغيبهم،
أن ينهيهم،
أن يخفي فضيحته.
ولكن الشباب يصمدون في السجن،
بل يحولونه إلى مدرسة،
يخرجون منها أكثر جمالاً، ونبلاً، واصراراً على الحياة والعطاء.
ويعيشون سيراً أقرب إلى الأساطير،
تكاد تدفع الانسان للقول: هنيئاً لخريجي هذه المدرسة !
تحية لهم،
وسلاماً على أرواح من غادر دنيانا منهم.
وشكراً لكل من كتب، ويكتب، من خريجي هذه المدرسة، وعنهم.
شكراً للأحبة:
إحدى الكتابات المؤثرة جداً ماكتبه الصديق العزيز الدكتور ثائر ديب تحت عنوان: ” القراءة من شحم القلب”.
وعن ذلك كتب أمس على صفحته في الفيسبوك:
صدر العدد 75 والأخير، للأسف، من المجلة الإنجليزية BANIPAL (بانيبال)، قاطرة الكتابة العربية إلى العالم، وفيه ترجمة جوناثان رايت البديعة لقطعتي “القراءة من شحم القلب” التي نُشرت أصلاً في ملف “الكتاب في السجن” في العدد 86-87 مارس/أبريل 2015 من مجلة “عالم الكتاب” التي تصدر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، وأعادت نشرها كتابةً أو صوتاً مواقع ومنابر عديدة.
الشكر الجزيل لجوناثان رايت وللعزيزين مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون.
وأضاف:
أنشر هنا الترجمة وتحتها الأصل. وأهدي الترجمة والأصل مرّة أخرى، وعلى الدوام، إلى الشباب اليساريين في كلّ مكان، إذ أعلم أنّ واحدة من السرديات الأشدّ إثارة في التاريخ الحديث هي قصة أولئك الرجال والنساء اليساريين الذين يذوون ويذبلون رازحين تحت أشكال عديدة من الاضطهاد لكنهم يصرّون، وبثمن شخصي باهظ في الغالب، على اكتساب المعرفة التقنية الدقيقة الضرورية لفهم شرطهم الخاص بعمقٍ أكبر، وعلى اكتساب بعض الأسلحة النظرية الأساسية السويّة لتغييره.
وننشر فيما يلي النص الأصلي، بالعربية، كي تعرف الأجيال الشابة، وغيرهم، مدى التضحيات الجسيمة التي قدمها الشباب اليساريين بوعي وإصرار، على مدى عقود، في مواجهة الديكتاتورية.
القراءةُ من شحمِ القلب
ثائر ديب
“يعيشُ على شحمِ قلبِه“،
تلك كانت عبارة أمّي في وصف مَنْ أَفْرَطَ في الإقلال من الطعام وراح يَنْحُلُ ويَنحُلُ مقتاتاً على ما سبق لجسده أن ادّخره إلى أن يبلغ أعزّ تلك المدّخرات.
“القراءةُ من شحمِ القلب”،
تلك عبارتي في وصف ضَربٍ من القراءة بالغ الغرابة حتى لا يكاد يخطر ببال؛ قراءةٌ بغياب المقروء، قراءةُ المعتقلين على مدى فترة التحقيق المديدة: تعذيبٌ مكثّف وشديدٌ في البداية، ثم احتمال تجدد التعذيب عند كلّ طارئ. لا كتب، ولا صحف، ولا مجلات، ولا ورق، ولا أقلام. كلُّ ذلك يغدو نائياً، من مجرّةٍ أخرى وعهدٍ آخر، فيبدأ العقل بالتعيّش على مدّخراته، وصولاً إلى الأعزّ بينها. كأنّ العضوية، وقد باغتها الوحش وحاصرها ذلك الحصار الذي لا تُعرَف له نهاية، تُشْهِر في وجهه آخر سلاح لديها: الثقافة، إنسانية الإنسان، تساميه على البهيميّة وخروجه منها.
كان الجوّ ماطراً ظهيرة ذلك اليوم من أواسط تشرين الثاني/نوفمبر في عام 1987، حين اعتُقلتُ من الجامعة في مدينتي اللاذقية بسبب انتمائي اليساري. كان الجوّ ماطراً، وكان معنى الاعتقال في تلك الأيام، كمعناه اليوم، أن لا تعرف إِنْ كنتَ ستبقى في عداد الأحياء، أو كم عَقْدَاً ستغيب، وأيّ قبوّ أو سجن صحراوي ستذوي فيه. كان معناه أن تودّع، ربما إلى الأبد، كلَّ ماتركته وراءك: ماضيك البعيد والقريب، أحبّتك، لون السماء، وملمس العشب، وتقف على شفير هاوية لا قرار لها.
كان يكفي أن تفكّر بجانبٍ من هذا حتى تنهار، وتندحر، ويزيّن لك الوهم أسوأ المسارات. في مثل هذه اللحظة تماماً، وفي فِعل مقاومةٍ للوحش والهاوية، تبدأُ القراءة من شحم القلب.
ما إِنْ صعدتُ المقعد الخلفي لسيارة المخابرات بين العنصرين المسلحين اللذين عصبا عينيّ حتى انطلقتْ مقاطع وصور متسارعة من كتبٍ عن تجارب الاعتقال والتحقيق. حَضرتْ كالومض بعض وصايا في كتاب “القمع البوليسي في روسيا القيصرية” لفيكتور سيرج، ذلك الفوضوي الذي أتى إلى البلاشفة والثورة الروسية وبات تروتسكياً بعد صعود ستالين سدّة السلطة. حضرتْ حوادث وشخصيات من كتاب “الأقدام العارية: الشيوعيون المصريون، خمس سنوات في السجون ومعسكرات التعذيب” لطاهر عبد الحكيم، خصوصاً إطلاق الكلاب في زنازين المعتقلين. وحضر مشهد الإيهام بالغرق في كتاب “العسف” للجزائري بشير الحاج علي، وكيف درّب نفسه على أن يختطف شهيقاً في أجزاء الثانية التي يُخرجون فيها رأسه من الماء ولا يلبث أن يزفره على مهل في الماء الذي يعيدون رأسه إليه. لكن الصورة التي كانت تتكرر طوال الطريق الذي قطعته السيارة من الجامعة إلى حفلة التعذيب التي بدأت فور وصولنا فرع المخابرات، كانت من كتاب “تحت أعواد المشنقة” للشيوعي التشيكي يوليوس فوتشيك الذي أعدمه النازيون، إنما بعد أن كان سجانٌ قد وفّر له القلم والورق في زنزانته وراح يُهرّب ما يكتبه صفحةً إثر أخرى:
“الساعة الثالثة. الفجر يزحف من حافة المدينة، باعة الخضر في طريقهم إلى الأسواق، الكنّاسون ينتشرون في الشوارع. ربما سأعيش كي أشهد فجراً آخر.
يأتون بزوجتي.
أمصّ الدم كي لا تراه. ذلك ضربٌ من الجنون فالدّم يسيل من كلّ مكان في وجهي، ومن أطراف أناملي.
“هل تعرفينه؟”
“كلا! لا أعرفه”
قالت ذلك من دون أن تندّ عنها نظرة فزع واحدة.
الحبيبةُ برّت بوعدها ألا تعترف قطّ بأنها تعرفني، رغم أنّ ذلك لم يعد مجدياً الآن. من يمكن أن يكون قد أخبرهم باسمي؟
اقتادوها بعيداً. ودّعتُها بألطف نظرة قدرتُ عليها. لكن لعلّها لم تكن نظرة لطيفة أبداً. أنّى لي أن أعلم؟”
أعدتُ قراءة كلّ ذلك من شحم قلبي، وقرّ قراري ألا أنهار وألا أجلب أحداً إلى هذا المسلخ. من كان قادراً على كسر صمودي بعد تذكّر فوتشيك؟ كان يكفي تذكّره كي يُشْحَن الصمود من جديد كلّما دكّ التعذيب مقاوماتي وراحت تنحلّ واحدةً إثر أخرى وتُشرف على الانهيار. لم يكن ذلك كلام كتب قطّ. كان قوةً تتغلغل في اللحم الذي يئنّ تحت السياط وفي الأوصال التي شلّها “الكرسي الألماني” الرهيب. كان العقل يردّ الدَّين للجسد ويعيد تغذيته بخلاصات ما اختزنه في القراءة.
لم يكن ذلك كلام كُتب. ولم يكن مجرد رومانسيات ثورية تختفي ما إن نُعتقل، كما كنّا نحسب ونخاف. بل إنني أذكر، في لحظةٍ على “الكرسي الألماني”، أنّ جذعي التوى بأشدّ مما يمكن التحمّل، وأنَّ روحي باتت في حلقي تكاد تنفر، وشُدَّت عضلات أطرافي إلى أن انهارت وما عدتُ أحسّ بها. أذكر أنني نزلتُ عندئذٍ عن آلة التعذيب، لا أعرف كيف، وخرجتُ من المعتقل على قدميّ المشلولتين، وسِرتُ إلى البيت. وحين قرعت الباب وفتح الوالد مادّاً ذراعه على نحوٍ يحول دون دخولي، أذكر أنّي لمحتُ خلفه كتّابي ومفكريّ ومناضليّ، عرباً وأجانب. لمحتُ وجه غرامشي وشهدي عطية الشافعي وفرج الله الحلو ومهدي عامل وروزا لوكسمبورغ وغيفارا… وآخرين. وفهمتُ من ذلك كلّه: إن كنتَ قد آذيتَ أيّاً من رفاقك، فهذا لم يعد بيتك. وحين وجدت نفسي ثانية على الكرسي، كنتُ أحسّ أنَّ جسدي الممزق المشلول قد استمدّ قوة تكفي لأن أقرر أنّ بيتي هو بيتي، كان وسيبقى، بأهله وضيوفه وكلّ ما فيه.
في لحظات الفراغ من التحقيق، لحظات الوحدة في الزنزانة، كان بمقدور المرء أن يُعِدَّ على مهل مقاومةَ الجولة القادمة، وأن يُقنع نفسه لا بتحمّل الألم فحسب، بل الاحتجاز أيضاً لسنوات لا يعلم عددها أحد، وربما بتحمّل الموت. كان بمقدور المرء أن يتذكّر مما قرأ إشارات مفادها أنّ الزمن ليس اللحظة الراهنة، وأنّ التكالب على كَسْبِ اللحظة قد يعني خسارة التاريخ القادم كلّه. لكن الأبرز والأبعد أثراً بين ما كان يستحضره عقلي في مثل تلك اللحظات، كانت قصيدة الشاعر التركي ناظم حكمت “نصائح إلى مرشحي سجون”:
“احرص على تناول حصّتك من الخبز حتى اللقمة الأخيرة
واحذر من نسيان الضحك ملء الفم.
من يدري؟
قد تُقلع المرأة التي تحبها عن حبّك
لا تستهن بالأمر!
تلك مسألة جادّة تُحْدِثُ لدى السجين
شعوراً كما لو أنّ غصناً أخضر قد انقصف
…
ليس مستحيلاً أن تبقى في السجن
عشر سنين، خمس عشرة سنة وأكثر
شريطة ألا تسودّ تلك الجوهرة النائمة
تحت ثديك الأيسر”.
كان صعباً على أحد أن ينتزع شيئاً بعد كلّ هؤلاء. غير أنَّ الظرف الذي يضطرك إلى كلّ هذا يبدو الآن، بعد كلّ هذا الزمن، مُخجلاً مثل فضيحة وعار.
مخجلٌ وعارٌ أيضاً أنني ما زلتُ أفكّر إلى الآن باكتشافي القديم صحّة ما تقوله سير الاعتقال ورواياته من أنّ الجلاد يحترم ضحيته التي تصمد ويحتقر من يَهن ويودي بقضيته.
مخجلٌ هو الزمن الذي لا يزال يحتاج إلى صامدين أمام التعذيب بسبب الرأي. ومخجلٌ أيضاً أن يضطر بشرٌ في مهاجع الاعتقال إلى قصّ أحداث روايات كاملة من الذاكرة كي يؤنسوا وحشة أمسيات الأقبية وألم أجساد من أُخفوا فيها بعيداً عن ضجّة البشر والمدائن.
كنا في المهجع التاسع من قبو فرع فلسطين -حيث اجتمعنا 55 معتقلاً في غرفة لا يتعدّى كلٌّ من طولها وعرضها الأمتار الأربعة- نُصغي لروايات كما يتذكرها رفاق قرأوها. وقد بلغت الحرفة ببعضهم حدّ أنه كان يقصّ رواية واحدة على مدى أيام، مثل حكواتي حديث، يشوّقنا بحكايات حديثة كتبها تولستوي أو غارثيا ماركيز أو تشيخوف أو وليام فوكنر أو سواهم. بل إننا رُحنا نُجري مسابقات إيماء يُطلب من المشاركين فيها معرفة عنوان الرواية التي يومى إليها. ثمّ تعقّد الأمر بعد ذلك وصار الإيماء يطال شخصيات روائية وتاريخية.
كان شحم القلب يخرج على شكل إيماءة، وكنّا نذوب في الإيماءة، مع الوقت والألم والوحشة.
إلى جانب الإيماء، استعدنا لعبة أخرى كانت تحتاج استحضار معارفنا وقراءاتنا ودقّة أسئلتنا. كان الواحد منا يُضمر في ذهنه شخصية عامة معينة ليُسأل عنها عشر أسئلة فحسب لا يجيب عن أي منها إلا بنعم أو لا. وكان علينا بعد ذلك أن نحزر من هي الشخصية. ثمّ حوّلنا اللعبة إلى ثنائيات مثل لوريل وهاردي والزوجين ويب في الحركة الاشتراكية الفابيّة الإنجليزية، وريّا وسكينة، ودريد ونهاد، انتقلنا بعدها إلى عناوين الكتب على اختلافها. وكان مضاء أسئلتنا يزداد بمرور الوقت، وكذا دقّة إجاباتنا وسرعتها.
كان عيداً يوم اكتشفنا طريقة بسيطة للكتابة! لم نكتشفها في الحقيقة، بل كان بيننا من عرفها في اعتقال سابق، وكدنا نقتله على صمته عنها كلّ هذا الوقت. لكنّه برّر ذلك بأنّنا لم نحتجها إلا في تلك اللحظة، حين رحنا نؤدّي تمثيليات بالغة القصر ومضحكة وصار من الأفضل تدوينها.
رحنا نتفرّس متحلّقين حول رفيقنا وهو يفرد ورق علبة التبغ ويمسّد ثنياته ثم يُبعد الغلاف الخارجي عن غلاف الألمنيوم الداخلي ويطوي هذا الأخير طيّة بعد طيّة حتى يأخذ شكل مثلث بزاوية مدبّبة مثل رأس القلم ثم يفركه بشعره على نحوٍ متكررٍ قبل أن يكتب به بضع كلمات فاهية على بياض الغلاف الأول. هكذا صار بمقدورنا أن نكتب قصيدة قصيرة، أو خاطرة، أو مشهداً تمثيلياً، وربما أغنية، أو فكرة نريد لها أن تحضر في ندوات المساء ومناقشاته.
جاء تحوّل كبير مع انتفاضة المعتقلين الفلسطينيين يوم اغتيل القائد الفلسطيني أبو جهاد (خليل الوزير) في تونس يوم 16 أيلول 1988. يومها كاد المعتقلون الفلسطينيون يحطّمون مهاجع فرع فلسطين تحت الأرض وفوقها. وسمعنا أن الحرس أقفلوا أبواب القبو تحت الأرض وهربوا، وأنّ بعض الفلسطينيين شربوا دواء الجرب كي ينتحروا حزناً على أبي جهاد واحتجاجاً على اعتقالهم. وفي اليوم التالي، كان عقاب المعتقلين الفلسطينيين الموجودين فوق أن ينزلوا ليأخذوا أماكننا تحت ونصعد نحن مكانهم.
في المهجع الكبير الذي اجتمعنا فيه مع رفاق آخرين حتى بلغ مجملنا نحو 85 معتقلاً ومعنا عددٌ قليل من الفلسطينيين، اختلف الأمر كثيراً. حصلنا هناك على قلم رصاص وعلى عدد قديم من مجلة “العربي” الكويتية. كتبتُ بقلم الرصاص على أوراق علب التبغ مسرحيتين كاملتين استعدتهما من الذاكرة لكاتب روسي اسمه غريغوري غورين. أولاهما “انسوا هيروسترات!” عن واحد من دهماء الإغريق أراد أن يصبح شهيراً بحرق واحدٍ من أروع معابد اليونان هو دلفي، والثانية بعنوان “البيت الذي شيّده سويفت”، عن الهجّاء الإنجليزي العظيم جوناثان سويفت وشخصيات أعماله الشهيرة، كنت قد ترجمتها عن الإنجليزية قبل الاعتقال مباشرة وأرسلتها إلى سلسلة “من المسرح العالمي” الكويتية. وسوف أعلم لاحقاً، وأنا بعد في السجن، أنها كانت ستصدر في الشهر الذي احتلّ فيه صدّام حسين الكويت. وسوف يتأجل صدورها إلى ما بعد تحرير الجيوش الأمريكية وحلفائها ذلك البلد.
أدّينا المسرحيتين الطويلتين خفيةً عن أعين السجان، وبكلّ ما أوتينا من قدرة على الإتقان. وسوف تُعاد تأديتهما من جديد في سجن صيدنايا في ظروف أفضل نسبياً. وحين أعدتُ طبع ترجمة “البيت الذي شيّده سويفت” بعد خروجي من المعتقل، كتبتُ في الإهداء: “إلى تلك “الفرقة” التي أدّت هذه المسرحية على خشبة مستحيلة”. أمّا مجلة “العربي” فقد قرأتها مرات ومرات، حرفاً حرفاً، كانت مثل كنز ثمين قبل أن نُنقَل لنجتمع مع معظم رفاقنا، قدامى ومحدثين، في سجن صيدنايا الجديد.
هناك كان ثمّة مكتبة للسجن. هناك كان ثمة مكتبة لرفاقنا القدامى. وهناك، مع حضور الكتب والورق والأقلام، كان ثمّة سياقات أخرى للقراءة، والمقاومة.